تشكّل القمة الخليجية في الرياض هذا الشهر موعداً محلياً وعربياً ودولياً لافتاً داخل سياق ما يُحكى عن مصالحة داخلية محتملة تعيد ترتيب البيت الخليجي. ولئن أثارت القمم الخليجية في السنوات الأخيرة غباراً حول إمكان طي صفحة الخلاف مع قطر، إلا أن ذلك لم يحصل، برغم دفعات التفاؤل التي كانت تضخّ في هذا الصدد. ويرفع الغموض والتكتم والدقة في صوغ التصريحات وتسطير البيانات من مستوى التشويق المائل إلى التشاؤم بشأن فرضية بدا أن الجميع يتوسلها من دون أن يهتدي إلى بلوغها.
اجتمع وزراء خارجية دول مجلس التعاون قبل أيام للتحضير لجدول أعمال القمة، وهذا أمر رتيب. غاب وزير خارجية قطر (حضر الاجتماع وزير الدولة للشؤون الخارجية). أثار الأمر أسئلة حول الاجتهاد في ذلك وتفسيراته داخل فتاوى الصلح العتيد. لم يبرّر الرسميون أمر هذا الغياب، فيما تلعثم المحللون في فك شيفرته. في المقابل، لا تبدو وسائل الإعلام القطرية، أو تلك المموّلة من قطر، في أجواء تلك المصالحة، ولم يتوقف دفقها في شن الهجمات “التقليدية” المملّة ضد دول المقاطعة الأربع.
والحال أن رشقات التفاؤل كانت مفاجأة مكثفة مفعمة بالجدية والمصداقية حين واكبت الزيارة التي قام بها جاريد كوشنر، مستشار الرئيس دونالد ترامب وصهره، للسعودية وقطر أوائل كانون الأول (ديسمبر) الجاري. بدا أن الإدارة الأميركية تلاقي المبادرة الكويتية (وزير الخارجية الكويتي أحمد الناصر زار واشنطن في تشرين الثاني/نوفمبر) وتدفع بفاعلية دول المنطقة لإنهاء الخلاف وإعادة تفعيل مجلس التعاون الخليجي وبث الروح في دينامية دوره ووظيفته.
ولئن تركزت أصداء مساعي المصالحة حول نواة التواصل بين السعودية وقطر، ولئن دفعت هذه الأجواء إلى توقع مصالحة متعددة السرعات، بحيث تبدأ بين الرياض والدوحة على أن تلتحق بها مصر والإمارات والبحرين في مواعيد لاحقة، إلا أن ما صدر عن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان من حرص على “التشاور مع الشركاء” من أجل مصالحة شاملة، وما صدر عن المنامة والقاهرة وأبو ظبي من ترحيب بمساعي الكويت وتعويل إيجابي على قمة الرياض، نفخ مزيداً من بذور التفاؤل في إمكان تحقيق ما لم يتحقق سابقاً، أو على الأقل زوال ما كان يمنع ذلك.
ومع ذلك، فإن للغموض المحيط بتحضيرات القمة ما لا يشي بانسيابية الاستعداد للانتقال من حقبة الانقسام إلى حقبة الوحدة، خصوصاً أن ما يصدر من تصريحات لا يتجاوز الصيغ الرسمية الشديدة الدبلوماسية، ناهيك عن أن سياسة “واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان” تتناقض مع شفافية التحولات والاستحقاقات التي تمر بها المنطقة، كما لا تجاري ضرورات الرد الجماعي على الأخطار التي تهدد كل دول المجلس إذا ما تحوّل استعراض القوة في الخليج إلى صدام عسكري كبير.
باتت قوة مجلس التعاون الخليجي مطلباً إقليمياً دولياً وحاجة داهمة لأمن الخليجيين أنفسهم. وسواء تعلق الأمر بتطورات الملف الإيراني أم بتحولات الدور التركي في المنطقة، أم بمستقبل المشهد الإقليمي الشامل منذ اتفاقات تطبيع العلاقات الإسرائيلية العربية، فإن المنظومة السياسية العربية برمّتها باتت تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى مراكز توازن صلبة تمثل المنظومة الخليجية إحدى واجهاتها.
والحال أن هناك بوناً شاسعاً بين لهجة الخلاف مع قطر وأدبياته ولهجة الصلح الممعنة في ضبابيتها. صحيح أن حقبة سياسية إقليمية دولية أملت قرار السعودية ومصر والإمارات والبحرين (5 حزيران / يونيو 2017) حسم الخيار صوب المقاطعة الكاملة مع الدوحة، وصحيح أن حقبة مخصبة بظروف أخرى تدفع باتجاه تدوير الزوايا وإنتاج تحوّل نحو الصلح، إلا أن واقعة الخلاف استندت الى قواعد بنيوية لا يمكن تجاوزها بديباجات لا ترقى إلى لغة العصر في إدارة العلاقات بين الدول والدفاع عن مصالحها.
والثابت أن للسعودية والبحرين والإمارات موقفاً غاضباً واحداً مما تشكله إيران من أخطار على الخليج والشرق الأوسط والأمن الدولي. وإذا ما كانت مقاربة مصر للملف الإيراني أقل حدة وتخضع لأبجديات أخرى في دبلوماسية القاهرة، إلا أن الأخيرة تمثل، ربما، رأس حربة الدول المقاطعة الأربع في مواجهة الدور التركي المقلق وما تشي به عثمانية أردوغان الجديدة من طموحات خطيرة داخل العالم العربي. في المقابل، فإن ما بين إيران وتركيا، ينشطُ إسلامٌ سياسيٌ، سني وشيعي، مروّجٌ لثقافة الميليشيات واللادولة ومحفّزٌ للإرهاب بأجسام وأشكال مختلفة، على نحو يجعل من وحدة الموقف من طهران وأنقرة حاجة أمنية للتصدي لظاهرة الفوضى التي تنفخ بها العاصمتان فتخترق العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا.
على هذا لا يمكن لأي تطبيع حقيقي مع قطر إلا أن يمر بملفات العلاقة مع إيران وتركيا. وما دامت مقاربة الملفين شأناً دولياً يتجاوز قدرات قطر وحدود وظيفتها، فإن من الجائز السؤال حول ما يمكن للدوحة أن تحمله من أجوبة شافية تطفئ شيئاً من أسباب اندلاع القطيعة.
على أن تعمّق عُقد المنطقة قد لا يوفر الظروف المساعدة لرأب صدع خطير داخل جدران مجلس التعاون الخليجي، خصوصاً أن سنوات القطيعة صلّبت داخل البيت الخليجي ثقافة القطيعة وما تنتجه من هياكل اقتصادية وسياسية وإعلامية، على نحو قد يجعل من المصالحة ترفاً لا ضرورة. وفيما أصل العلة مرتبط بتباين موقف قطر مع مقاطعيها في شؤون متعلقة بتركيا وإيران، فإن كل تلك الدول قد يغريها انتظار ما يمكن أن يتبدل في موازين القوى لتطوير شروط الصلح المتوخى وقواعده.
قد يكون موعد 5 كانون الثاني (يناير) المقبل مناسباً لصدور قرارات الصلح، بما يمكن أن يسجل لإدارة ترامب ويحسب لجهود صهره المستشار قبل 15 يوماً من انتهاء صلاحية تلك الإدارة. وعلى هذا، فإن ذلك الصلح سيكون وهناً نظريَّ المضمون لدواع تشبه لزوم العلاقات العامة، ما دام يأتي خارج سياق التحولات المنتظرة في كل المنطقة. وقد يجوز هنا السؤال حول قدرة الدينامية الخليجية وحدها، مهما ارتفع منسوب العصبية والغيرة البيتية، على خلق حالة تصالح تقفل ملفات بتلك الخطورة بغض النظر عن غياب التطور في ملفي إيران وتركيا.
وإذا ما بات شأن تركيا وإيران، كما شأن ليبيا وسوريا ومستقبل القضية الفلسطينية وقضايا أخرى، شديد الارتباط بأجندة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن في المنطقة، فقد يكون من المربك القفز على هذا المعطى في السعي لإنتاج شبه مصالحة يزعمها الجميع وقد لا يمتلكون الانخراط الجدي بمفاعيلها.
المصدر: النهار العربي