تجاوزت النكبة الثانية، التي استفاق عليها الفلسطينيون في سورية، من حيث فداحة وقائعها، وعسف تداعياتها، تلك المخاطر الوجودية التي نجمت عن نكبة العام 1948. لا أدل عليها من حقائق الأزمة الإنسانية، التي اختبروها منذ بدايات الصراع في سورية، وعلى امتداد محطاته المتتالية، وما حلّ بأوضاعهم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، من تدهورٍ شامل طال مختلف جوانب حياتهم. لم تقتصر فقط على من تبقّى منهم في الداخل السوري، بل شملت العديد من اللاجئين الذين اضطروا إلى مغادرة سورية، واتجهوا إلى دول الجوار. كانت تركيا إحدى الوجهات الأساسية التي لجأوا إليها، باعتبارها المعبر الأساسي للهروب من جحيم الحرب، والممر الذي تنكّبوه في هجراتهم غير الشرعية للوصول إلى أوروبا، والتي قصدها عشرات الآلاف منهم، عبر طرق التهريب البحرية والبرية. فيما لم تتمكن أعداداً منهم من مغادرة الأراضي التركية، وبقيت عالقة فيها. فيما فضّلَ آخرون البقاء والاستقرار فيها لأسباب ودوافع مختلفة.
أما اليونان التي تشكّل بوابة اللاجئين إلى أوروبا، فهي بمثابة قاعدة انطلاق وتوزع اللاجئين نحو مختلف الدول الأوروبية، ومع تشديد الإجراءات حيال الهجرة غير الشرعية في السنوات الأربع الأخيرة، لا يزال قسم من اللاجئين الفلسطينيين عالقاً أيضاً في الجزر اليونانية، بانتظار توفر فرص تهريبه، ووصوله إلى حيث يقصد.
لعلّ تسليط الضوء في هذه المقال، على الصعوبات والمشكلات المتعددة، التي تواجه اللاجئين العالقين في تركيا واليونان، ما يوضح إلى حدٍ كبير – كما سنأتي عليه – حقائق معاناتهم المركبة، وتفاقم حالة القلق الوجودي الذي يكابدونه، مع استمرار محطات انتظارهم حيثما يتواجدون، وتأثرهم الكبير بجائحة كورونا التي ضاعفت من صور تلك المعاناة، ما جعلهم كفئات مستضعفة ضمن حالات اللجوء الأكثر هشاشةً، عالقين بصورة فعلية بين السماء والطارق. فلا هم قادرون على تحمل الظروف الاقتصادية والمعيشية والنفسية الصعبة، التي تواجههم في دول العبور، ولا هم قادرون على الوصول إلى دول أوروبا كمحطة أخيرة يستقرون فيها.
العالقون في تركيا
يتواجد في تركيا ما بين (8000 إلى 9000) لاجئ فلسطيني سوري، يتوزع نصفهم تقريباً في المناطق الحدودية مع سورية “الريحانية- أنطاكية- كلس- عنتاب- مرسين- العثمانية- نزيب” فيما النصف الآخر اتجه إلى المدن الداخلية الكبرى “إسطنبول- أنقرة- بورصة- أضنة” وقد دخل أغلبهم منذ بدابة الحرب عبر الحدود البرية بطرق غير شرعية. تُعامل الحكومة التركية من دخلوا أراضيها معاملة اللاجئ السوري، ويمنحون بطاقة “الكامليك”، وهي “بطاقة التعريف للحماية المؤقتة” يتمتع صاحبها بالحقوق التي تُقدّمها الحكومة التركية، كحق التعليم والرعاية الصحية، ومنح تراخيص العمل حسب تعليمات وزارة العمل، وتسجيل المواليد وتثبيت الزواج والطلاق والوفاة، وتنظيم عقود الإيجار والحسابات البنكية، والتنقل من خلالها داخل الأراضي التركية، شريطة الحصول على إذن سفر من دوائر الهجرة في الولايات. فيما كانت الحكومة التركية تطلق على اللاجئين صفة “ضيوف” وهي صفة تنطوي على التزام أخلاقي، ليس لها آثار قانونية وفق حقوق اللاجئين في القوانين الدولية، إلا أنه بعد صدور قانون الحماية المؤقتة بقرار من مجلس الوزراء في 13/10/ 2014 .أصبح بالإمكان تحديد المركز القانوني للاجئين السوريين، ومن ضمنهم فلسطينيو سورية، حيث يشمل قانون الحماية كل من يهجّر من بلاده، ويلجأ إلى تركيا أو الحدود التركية لظروف تهدد حياته، وتمنعه من العودة إلى بلاده، ويشمل زوجته وأولاده، كما يقضي بمنح السلطات التركية حق البقاء له في تركيا، إلى أن يقرر بنفسه العودة إلى بلده دون أي إكراه.
أما على صعيد الولاية الدولية، فتنظر وكالة الأونروا إلى فلسطينيي سورية في تركيا، بوصفهم خارج مناطق عملياتها الخمس، ولا يستفيدون من كافة الخدمات التي تقدمها في تلك المناطق، رغم مطالباتهم المتكررة بأن يشملهم تفويض المساعدة، الذي تختصُّ به الأونروا، باعتبارها المرجعية الدولية للاجئين الفلسطينيين، ما يقتضي وفق أحكام القانون الدولي أن يشملهم تفويض الحماية، الذي تختص به المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، لكنها تمتنع عن القيام بدورها تجاههم. خلافاً لاتفاقية اللاجئين الدولية عام 1951، التي توجب على المفوضية النهوض بمسؤولياتها تجاه اللاجئين، في حال عدم وجود وكالة دولية أخرى تشملهم برعايتها ومساعداتها.
في ضوء ذلك، يواجه فلسطينيو سورية في تركيا صعوبات معيشية كبيرة، وتعاني مئات الأسر من نقص في احتياجاتها الإنسانية، لا سيما تلك التي ليس لها معيل، أو بسبب عدم قدرة رب الأسرة على العمل، بسبب التعقيدات في منح أذونات العمل. وضعف المداخيل في المهن التي يعمل فيها اللاجئون، والتي لا تتناسب مع نفقات الحياة المرتفعة. كما يوجد أكثر من (500) لاجئ لا يحملون بطاقة “الكمليك”، وأكثرهم ممن تم تهجيرهم من مخيم اليرموك إلى الشمال السوري عام 2018. ومنه دخلوا عبر منافذ التهريب إلى الأراضي التركية. تتضاعف معاناة من لا يحملون بطاقة الحماية المؤقتة على وجه التحديد، لأنها بطاقة التعريف الرسمية للاجئ وفق القانون التركي، ومن لا يحصل عليه يُعتبر متواجداً بصورة غير شرعية، ومهدداً بالترحيل في أي وقت، مع أن الحكومة التركية تتغاضى في كثير من الأحيان، عن تنفيذ إجراءات الترحيل بحق هؤلاء. كما لا يستفيدون من الخدمات الصحية والتعليمية، التي يتمتع بها حاملو تلك البطاقة.
لا توجد إحصائيات دقيقة لنسب الفقر والبطالة بصورة عامة، تشمل كافة مناطق توزع فلسطينيي سورية في تركيا، غير أن هناك إحصائيات جزئية تشمل مناطق معينة يعيشون فيها، تؤشر بدورها إلى مدى اقتراب تلك النسب من الحقيقة. ففي مدينة مثل أورفا الحدودية والتي تتواجد فيها قرابة (70) عائلة فلسطينية، تبلغ نسبة العائلات التي تعاني من نقص كبير في توفير مقومات الحياة الأساسية، من إيجار سكن ومأكل وملبس ومواد تدفئة، قرابة (55) عائلة. في حال مقارنة دخلها، بمداخيل المواطنين الأتراك، فإنها تندرج ضمن حالات ما دون خط الفقر. ليس وضع بقية تجمعات اللاجئين الذين يقيمون في مدن أخرى بأفضل حالاً، وما يُقدم لهم من مساعدات عن طريق مؤسسات إغاثية سورية أو فلسطينية سورية، يعتبر شحيحاً وموسمياً ويغطي جزءاً يسيراً جداً من احتياجات تلك العوائل. كما أن عدد المشمولين ببرنامج الإعانات النقدية الذي يقدمه الهلال الأحمر التركي للاجئين السوريين ومن في حكمهم، لا يتعدى (20) % من مجمل فلسطينيي سورية في تركيا.
مع انتشار وباء كورونا تأثر قطاع كبير من اللاجئين، لا سيما أرباب ومعيلو أسرهم، الذين يعملون في ورش صناعية، وفي أعمال البناء، والمهن الحرفية، وفي المطاعم والمقاهي، حيث أدى إغلاق الكثير منها، إلى قطع موارد أرزاقهم رغم الأجور المتدنية التي كانوا يحصلون عليها، وتحوُّل غالبيتهم إلى عاطلين عن العمل.
أما حملة الشهادات العلمية وأصحاب الكفاءات، ممن يستطيعون العمل حسب اختصاصاتهم، فهم قلة محدودة جداً من الأطباء والمعلمين والصحافيين ونشطاء المجتمع المدني. فيما تحول صعوبات تعديل الشهادات، لا سيما بالنسبة للمهندسين والمحامين، دون انخراطهم بسوق العمل. مع العلم أن القسم الأكبر من حملة الشهادات والكفاءات الفلسطينية السورية التي كانت في تركيا، هاجر إلى أوروبا خلال السنوات الماضية.
يفتقد اللاجئون في تركيا إلى أية مرجعية وطنية أو دولية، خلافاً لما كانوا عليه في سورية قبل بدء الصراع عام 2011، ويقتصر دور السفارة الفلسطينية على منحهم جوازات سفر بلا رقم وطني، وتقوم بمساعدتهم في الجوانب الإغاثية بشكل محدود جداً، ومن خلال التنسيق مع الجالية الفلسطينية في تركيا. كما يجدون صعوبات كثيرة في الحصول على وثائق الأحوال المدنية من سورية، بسبب العراقيل التي تضعها دوائر مؤسسة اللاجئين الفلسطينيين التابعة للنظام السوري، والتي يحتاجون للحصول عليها، إلى تدخل وسطاء وسماسرة مقابل مبالغ مالية كبيرة.
تُضاعف تلك الظروف المعيشية والإنسانية القاسية، من تدهور أوضاعهم بصورة متسارعة، ومع رغبتهم بالحصول على وثائق توفر لهم الاستقرار القانوني والمعيشي، تستحوذ الهجرة غير الشرعية على تفكير غالبية من تبقى منهم، في حال أتيحت لهم أية فرصة لطرق أبوابها، لا سيما أن تركيا كانت قبل توقيع الاتفاقية الأوروبية – التركية في شباط 2016، النافذة الأكبر لطرق التهريب نحو أوروبا، وكانت موجات متواصلة من فلسطينيي سورية، قد عبرت البحار إلى شواطئ أوروبا، وسقط عشرات الضحايا خلال رحلات الموت التي شهدوا أهوالها.
العالقون في اليونان
وصل أغلب اللاجئين إلى الجزر اليونانية، من تركيا عبر بحر إيجة، من خلال شبكات تهريب البشر، التي نشطت بصورة كبيرة قبل توقيع اتفاق الحد من تدفق اللاجئين بين الاتحاد الأوروبي وتركيا عام 2016. مع ذلك، لم يؤدِ الاتفاق إلى وقف نهائي لتدفق اللاجئين، بسبب انعكاس الأزمات السياسية على خطوات تطبيقه في مراحل لاحقة. لكن بكل تأكيد نجم عنه انخفاض كبير في تدفق اللاجئين بنسبة تفوق 95% قياساً بالأعوام التي سبقت إبرامه. وفقاً لتقديرات الحكومة اليونانية بلغ عدد اللاجئين لديها (37000) لاجئ، فيما يُقدر عدد اللاجئين الفلسطينيين السوريين العالقين في اليونان وفق إحصائيات غير رسمية (4000) لاجئ. غالبيتهم يتواجدون في جزر “ليسبوس – متليني – خيوس – ليروس – كوس).
يرى العديد من المنظمات الحقوقية الدولية، أن مصطلح “العالقين” في اليونان، والذي يشمل حكماً الفلسطينيين السوريين، هو أحد آثار اتفاقية العام 2016، وهو ينطبق على المهاجرين السوريين ومن في حكمهم، الذين تُركوا عالقين في الجزر اليونانية، وليس لديهم الحق في الذهاب إلى مراكز المدن اليونانية، ويخشون العودة إلى تركيا. إذ يعود لسلطات اللجوء اليونانية (GAS) أن تقرر ما إذا كان مقدمو طلبات اللجوء، يستوفون معايير اللجوء أم لا، حيث يشمل ذلك أيضا إثبات حالة “الاستضعاف” الأطفال غير المصحوبين بذويهم، والمرضى، والمعوقين، والنساء الحوامل، وضحايا التعذيب، أو الاغتصاب، والأشخاص الذين تم الاتجار بهم.
تعاني مخيمات الجزر ظروفاً معيشية صعبة حيث تتجاوز أعداد اللاجئين قدرتها الاستيعابية بستة أضعاف، حيث تُحشر في العديد من تلك المخيمات، ثلاث عوائل في خيمة واحدة. ويجد قاطنوها صعوبات في الحصول على الخدمات الصحية والطبية، ومن مشكلاتها أيضاً سوء النظافة والتعقيم، ما يزيد من انتشار عدوى كورونا بين اللاجئين. يشير اللاجئ الفلسطيني السوري حسين الخطيب، العالق مع أسرته في مخيم “كاراتيبي الجديد” عن أنواع أخرى من معاناة اللاجئين حيث يقول: “كنّا نقيم في مخيم موريا الذي تعرض لحريق كبير في شهر أيلول 2020، نجم عنه احتراق المخيم الذي كان يضم (12700) طالب لجوء، وقد واجهنا خطرا وشيكا يهدد حياتنا جراء تلك المأساة التي وقعت.”
فيما أعربت منظمة “هيومن رايتس ووتش”، عن قلقها وتخوفها من تعرض آلاف اللاجئين، وعمال الإغاثة لخطر التسمم بالرصاص، في مخيم المهاجرين الجديد الذي تم نقل اللاجئين إليه، بعد الحريق الذي أتى على مخيم موريا. إذ تضيف المنظمة: “إن المخيم الجديد ويسمى مخيم “كاراتيبي” ويقع في جزيرة ليسبوس اليونانية، تم بناؤه على أرض ميدان رماية عسكري سابق، ويحوي مواد ملوثة برصاص الذخائر، تشكل مصدراً لخطر التسمم، الذي ستكون له نتائج صحيّة ضارة على حياة المقيمين فيه”.
تكشف معاناة الفلسطينيين السوريين العالقين أيضاً، عن تعرضهم لآثار نفسية عميقة، فهم يشعرون أنهم موزعون على مخيمات، تشبه السجون في طريقة تعامل السلطات اليونانية مع المقيمين فيها. فعدا عن سوء الخدمات، والاكتظاظ داخل الخيم، وعدم توفر العديد من الاحتياجات اليومية الضرورية. يخالجهم شعور حاد بالضياع والتشظي النفسي، ويسيطر عليهم الخوف من بقائهم، في هذه الدوامة المريرة المسكونة بالانتظار والترقب، لا سيما أن أعداداً منهم لا تزال في هذه الوضعية الكارثية منذ أربع سنوات.
حلول طي التجاهل
تثير مشكلة آلاف الفلسطينيين السوريين العالقين في هذه الدول، جدلاً قانونياً حول وضعيتهم كلاجئين لا تُطبق عليهم معايير اتفاقية اللاجئين لعام 1951، رغم أنهم الفئة الأكثر احتياجاً للتمتع بتفويض الحماية الذي توفره المفوضية. لا يغير من ذلك اختلاف أوضاعهم القانونية نسبياً ما بين تركيا واليونان، بل إن تردي أحوالهم الإنسانية والمعيشية عموماً، وتضخم أشكال معاناتهم، مع غياب مقومات وشروط عودتهم الآمنة والطوعية إلى مخيماتهم في سورية، تؤكد المأزق الوجودي الذي يواجه حياتهم ومستقبل أبنائهم. يغيب عن أذهان المجتمع الدولي وأرجح أنه تجاهل مقصود، حيال هؤلاء العالقين تحت وطأة ظروف تفوق قدرتهم على الاحتمال، ما يتوجب عليه القيام به من التزامات ومسؤوليات إنسانية وأخلاقية، في إيجاد حلول عملية مُنصفة تجاهم، تبدأ أساساً في تصنيفهم كلاجئين، مشمولين بكافة الحقوق الواردة في اتفاقية اللاجئين الدولية. فلا إمكانية لتوفير معالجات قانونية وإنسانية تخفف من معاناتهم، وتضعهم على سكة الحلول المطلوبة، دون توفير الآليات القانونية التي تضمن حقوقهم الإنسانية، وتلبي احتياجاتهم الأساسية بما يصون كرامتهم. يندرج في إطار تلك الحقوق، حقهم في الاستفادة من خدمات ومساعدات الأونروا بوصفها المرجعية الدولية لقضية لجوئهم، أسوةً بأقرانهم في مناطق عمليات الأونروا. في حال تعذر شمولهم بتفويض الأونروا وهي الفرضية الغالبة، تسهيل تسجيلهم في برامج إعادة التوطين التي تختص بها المفوضية السامية، دون خضوع هذا الحق لأي معايير سياسية، على حساب حقهم بالحفاظ على عودتهم إلى ديارهم الأصلية في فلسطين.
من المؤسف أن المجتمع الدولي الذي يتحمل مسؤولية كبرى، عن قضية تهجيرهم عام 1948، وعن صمته طيلة السنوات الأخيرة، عن تهجيرهم وتهجير ملايين السوريين على يد النظام السوري، لا يزال يسير على خطى الإنكار والتجاهل في محنة نكبتهم الثانية. مع تركهم أسرى المصير المجهول، عالقين تحت سطوة المعاناة المفتوحة، تكتمل فصول مأساتهم المتواصلة، وهي وصمة عار بحق الإنسانية.
المصدر: العربي الجديد