لم تطرح العقول السياسية السائدة في الساحة السورية مسألة السلم الأهلي في برامجها وخططها، لاعتقادها أن المجتمع السوري “صبّة” واحدة، متآلفة وموحدة، ولو طرحته في زمن ما قبل الثورة، وأرسته على أسسٍ جامعةٍ تنظم حياة السوريين المشتركة، وعلاقات المساواة والعدالة بينهم، لما دامت مأساتهم نيفا ونصف قرن، ولما نجحت الأسدية في تحويل ما بينهم من فروق إلى تناقضاتٍ استغلتها أجهزتها ضدهم، ولربما كان العالم سيقتنع بدعم حريتهم، بما يراه من توافقٍ بينهم، يطبع سياساتهم ومواقفهم بطابع عقلاني مؤهل لكبح الإرهاب والاستبداد. ولو طرحته في زمن ما بعد الثورة، لكان التوافق حوله كفيلا بزعزعة الأسدية، بما كان سيواجهها من وحدة وطنية عصية على الاختراق سياسيا وعسكريا، ولما ضنّ العالم على السوريين بنظام بديل. ولكن شيئا من هذا لم يحدث، قبل الثورة وبعدها، والسبب: ضمور الوعي بأهمية السلم المدني لدى أطياف العمل المعارض، واتصاف علاقاتها بقدر خطير من التوجّس والعداء، وبناها بالفئوية والعصبوية من جهة، وتعرّضها، من جهة أخرى، لقمع دائم، وتصفياتٍ منهجية، واختراقات أفقية وعمودية، شحنتها بالتوتر وانعدام التضامن الذي حوّلها إلى تنظيماتٍ متناثرةٍ وعاجزةٍ عن إنجاز أفعال مؤثرة تتخطّى بواسطتها ضعفها الذي أسهم في دورانها ضمن دوائر أسدية مغلقة، استهدفت فصلها عن الشعب، وتهميشها سياسيا ومجتمعيا، وقصر وجودها وأنشطتها على العدد القليل من منتسبيها، السرّيين الذين واجهوا السلطة ودولتها العميقة المنظّمة التي شكلت مجتمعا قائما بذاته، ناخ بكامل ثقله وعنفه على مجتمع عمل بدأبٍ على كتم أنفاسه وتشتيته، فلا عجب أن بدت ثورته كشهقة حياة أطلقها تمرّد استشهادي مفعم بالإصرار على الحرية، على الرغم من جرائم الأسدية التي أوصلته إلى حافّة الهلاك.
لا عجب أن انتشرت، في هذا الوضع، أفكار نخبوية نفت وجود مجتمع سوري، وساقت دليلا على زعمها، هو افتقار فترة ما بعد الثورة إلى سلم مدني وأهلي، وصمت قطاعاتهم الواسعة على تقويض ثورة الحرية لصالح ثورة مضادّة لها، تخلقت مذهبيا وإرهابيا بجهود عملاء للأسدية ولدول أجنبية، غزوا سورية بحجة “تطبيق شرع الله”، إلا أنهم احتلوا المناطق التي حرّرها الجيش السوري الحر، واستهدفوا هذا الجيش بالقتل والتفكيك، فلم تخدم أفعالهم أحدا غير أجهزة الأسد، والعاملين لإنقاذها.
لو كان في سورية مجتمع موحد، يواصل النقاد النخبويون كلامهم، لما قبل أن يمثله من تجاهلوا الارتداد عن ثورة الحرية، بل وارتدّ معظمهم عنها، ولما وقف هؤلاء مكتوفي اليدين حيال استهداف ما كان من لحمةٍ بين الجماعات الوطنية السورية، لطالما عبّرت عنها، من خلال حراكها المدني والسلمي، ولما استمرّ موقفها، أخيرا، بعد أن أقام الإرهابيون نظاما مكملا للنظام الأسدي في “المناطق التي “حرّروها” من الثورة وشعبها.
ما مضى مضى. دعونا نبادر، منذ اليوم، إلى لم شمل شعبنا السوري على أسس مدنية تشاركية، تكبح ما يفرّقه من تناقضاتٍ وتبايناتٍ أجّجها ويؤجّجها ويراهن عليها أعداؤه وغزاته المحليون والغرباء، ولا بد أن نقاومها، ونعين أهلنا على بناء مجال عام موحد، ينتمي إلى ما يسمونه السلم المدني، كمجسد لوحدة شعبنا ولما يعزّزها من أسس ومبادئ ومصالح وسياسات نترجمها إلى مواقف وخيارات عملية هي ما نسميها الثورة: سبيلنا إلى توحيد صفوفنا واستئناف ما كنا نعيشه من اندماج وطني وإنساني، قبل نكبتنا بالعسكر وطائفيتهم، علنا ننجح في إفشال خطط أعدائنا الذين يراهنون على تفاقم تمزق (وانهيار) مجتمعنا، المهدّد بالقول والفعل في وجوده، لأن في هلاكه نجاة أعدائه، وبقاء السوريين غارقين في بؤسهم، ومستبعدين من المشاركة في تقرير مصيرهم، ونيل ما ضحّى الملايين من بناتهم وأبنائهم لبلوغه، وأكّدوا باصرارهم عليه أنه أغلى ما يطلبونه: حريتهم.
المصدر: العربي الجديد