حتى اللحظة لم يعرف الرأي العام العالمي، بما فيه التركي والسوري أن أميركا وحلفاءها في حلف شمال الأطلسي (ناتو) شاركوا في معركة إدلب الأخيرة بدور حاسم، أعاد الاعتبار بسرعة خارقة للجيش التركي الذي أهانته فلول عصابات الأسد، وقتلت منه 36 عسكريا في ضربة واحدة. وشاركت الطائرات الحربية الروسية بقصف الاهداف التركية والسورية على الأرض يوم الخميس الأسود 27 فبراير.
في ذلك اليوم سقط 27 جنديا تركيا بنيران فلول الاسد الهزيلة، ومعها الطيران الروسي – السوري، وعصابات حزب الله، وقوات الحرس الثوري. كانت الخطة تقضي أن تزحف قوات المحور بسرعة خاطفة للوصول الى مركز مدينة ادلب لاحتلالها، وتهجير مليوني سوري على الأقل من أهلها، ودفعهم لدخول تركيا، وفرض أمر واقع جديد في سورية بالسيطرة على أكبر محافظة خارجة عن سلطة الطاغية وحلفائه، والقضاء على أكبر كتلة من المعارضة المسلحة في سورية تحت عنوان عودة قوات الحكومة الشرعية الى الحدود الدولية مع تركيا ومطالبة هذه بالانسحاب من الأراضي السورية.
كانت عقارب الساعة تدور بسرعة، وارتدادات الضربة المهينة للقوات التركية تفرز آثارها على الداخل التركي وتحرض الشارع الغاضب ضد اردوغان، وضد السوريين للأسف.
الجدير بالذكر أن القوات التركية ونقاط المراقبة في سورية تعرضت لضربات كثيرة خلال شهر فبراير تدريجية وتصاعدية، كما لو أن الروس كانوا يرصدون ويحللون ردات فعل القيادة التركية وحلفائها ليقرروا مواصلة الزحف على ادلب أم الاكتفاء باستعادة عشرات القرى التي احتلتها قوات الأسد في جنوب المحافظة، فضلا عن ريف حماة وريف حلب.
وأحصى (موقع تركيا الآن) قتلى الجيش التركي خلال فبراير فكانت: 3 فبراير قتل 8 جنود، وفي 10 فبراير قتل 4 جنود، وفي 20 فبراير قتل جنديان، وفي 22 فبراير قتل جندي واحد، وفي 27 فبراير قتل 36 جنديًا.
بموازاة هذه التطورات الميدانية، كانت واشنطن ترسل رسائلها الى انقرة مقرونة بالتأنيب: لماذا وثقتم ببوتين؟ الم نقل لكم: بوتين مخادع لا يفي بوعوده؟
يوم الضربة الكبرى صرح ترامب فورا أنه سيدعم تركيا، وتبعه عدد من قادة اوروبا، معبرين عن تأييدهم للحليف التركي بما فيهم الرئيس الفرنسي الذي كان يساجل ويهاتر اردوغان في مسائل أخرى. ولم يتأخر حلف الناتو إذ عقد اجتماعا طارئا بسرعة قياسية، يوم الجمعة 28 فبراير، أي بعد أقل من 24 ساعة، خرج أمين عام الحلف ينس ستولتنبرغ بعده ليرسل رسالته لا لتركيا ولكن لروسيا (على روسيا وحليفها السوري وقف غاراتهما على ادلب فورا)، وأكد ستولتنبرغ (تضامن الحلف الكامل مع تركيا، وأكد أن أعضاء الناتو يبحثون دوما فيما يمكن فعله لتقديم مزيد من الدعم لتركيا).
وأرسلت واشنطن اثنين من كبار دبلوماسييها الى انقرة لإبلاغها دعم ادارة ترامب وهما جيمس جيفري مبعوثها الخاص الى سورية وكيلي كرافت سفيرتها في الأمم المتحدة، وأحيطت الخطوات التنفيذية بالكتمان كما هي الاصول في هذه الحالات الحساسة بلا استعراض ولا شعبوية قد تضر ولا تنفع.
كان بوتين في تلك الأيام يرفض الرد على اتصالات اردوغان الهاتفية المتكررة، ويرفض عقد قمة رؤساء آستانا المقرر في 5 مارس في طهران. وترك القيصر المغرور لوزير خارجيته سيرغي لافروف الرد على منتقدي روسيا وتصريحات الأتراك، فقال إن تركيا هي التي لم تلتزم باتفاقات آستانا، ولم تنفذ ما عليها من التزامات، وروسيا مصممة على محاربة الارهاب والقضاء على الجماعات الارهابية في ادلب، ولم يتردد في الدفاع عن سلوك قوات الاسد وضربته للقوات التركية. فرد وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، عن رفضه لما سماه ” مزاعم روسيا “، حول مقتل 36 جنديًا تركيًا بنيران النظام السوري في محافظة إدلب.
وأوضح في خطاب بثه التليفزيون التركي، أنه “على الرغم من التنسيق مع المسؤولين الروس الموجودين على الأرض وقع الهجوم “. وتابع أنه ” بعد الضربة الأولى على الرغم من التحذيرات، استمر الهجوم، مشيرًا إلى أنه “خلال الغارات الجوية، تم حتى ضرب سيارات الإسعاف”.
يوم السبت فجرا بعد 48 ساعة من العدوان على القوات التركية بدأت هذه هجومها الانتقامي المضاد بواسطة الطائرات المسيرة، والقصف المدفعي، وهجوم بري بواسطة المقاتلين السوريين على مواقع النظام. وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان السبت إن الضربات التركية الجوية والبرية قتلت 48 من “قوات النظام والميليشيات الموالية لها. وقالت وزارة الدفاع التركية إنها دمرت ثماني دبابات وأربع مدرعات وخمسة مدافع وراجمتي صواريخ، إضافة إلى قتل 56 عنصرا من قوات النظام السوري والميلشيات.
وفي الايام التالية أسقط الاتراك والمقاتلون السوريون ثلاث طائرات سوخوي، وثماني هليوكبترات، ودمرت عشرات الدبابات والمدرعات، وقتلت أو أصابت مئات المقاتلين، ودمرت عشرات المواقع بما فيها مطار النيرب العالمي، وقدر الاتراك اجمالي القتلى والاصابات من النظام وحلفائه بين 2000 – 3000، بينهم أكثر من 15 من عناصر حزب الله والميلشيات العراقية.
فما الذي حدث في الايام الثلاثة الاولى من 29 فبراير – 3 مارس؟ وكيف تمكنت القوات التركية من الرد بهذه القوة على قوات الاسد؟
الجواب نجده في ما كتبه الباحث التركي المرموق د . سنان أولغن وهو رئيس EDAMمركز أبحاث وباحث زائر في مركز كارنيغي للأبحاث في اوروبا.
[يرتبط نجاح الهجوم المضاد الذي شنّته القوات التركية بعد الغارات الجوية ضد قواتها ارتباطاً وثيقاً بوضع عسكري أوجده الناتو وجعله ممكناً فعليا، إضافة الى أن أنقرة استفادت من (منظومة الدفاع الأوروبية – الأطلسية) التي تشترك بها. أحد الأمثلة على ذلك الطريقة التي استغل بها الجيش التركي القدرات المرتبطة بالحرب المُرتكِزة على الشبكات ضد وحدات جيش الأسد المنفردة. فكانت مقاتلة F-16 تركية واحدة قادرة على إسقاط مقاتلتين سوريتين من طراز سوخوي Su-24، ليس في معركة قتال جوي، بل وهما خارج مدى الرؤية البصرية للمقاتلة التركية. إذ حددت طائرة نظام إنذار مبكر وتحكم محمول جواً (أواكس) الهدفين، ونقلت مواقعهما والمعلومات الأخرى المهمة في نفس الوقت إلى مقاتلة الـF-16 عبر رابط بيانات حلف الناتو “Datalink”. ثُمَّ نُقِلَت هذه المعلومات إلى صواريخ AMRAAM جو- جو على متن مقاتلة الـF-16 ووُجِّهَت صوب هدفيها]
بهذه الآلية قلب التدخل الأطلسي معركة ادلب لصالح تركيا وأنقذ شرف جيشها الذي تعرض لضربات مهينة من شراذم عسكرية وميليشيات صغيرة، ولذلك جاء الرد على فلول جيش الأسد وقوات حزب الله بتلك الضربة الساحقة.
فهم الروس معنى الرسالة الأطلسية، فالتزموا أقصى درجات الحذر، حتى أنهم سهلوا للأميركيين والاتراك الانتقام من قوات الاسد – حزب الله، ولم يتدخلوا لإنقاذهم، وتركوهم يلاقون مصيرهم.
وفي خلال هذه الايام عاد القيصر الروسي ليرد على اتصالات اردوغان، واتفق معه على اللقاء في موسكو يوم 5 مارس!
الموقف الاميركي تطور مرة أخرى لصالح تركيا يوم أمس الثلاثاء 10 مارس، إذ قال جيمس جيفري الذي جاء الى مقر حلف الناتو لمتابعة الاجراءات الداعمة لتركيا وردع روسيا والنظام السوري (إن الولايات المتحدة تدرس سبل دعم تركيا في الساحة السورية، مؤكدا أن ” كل الخيارات مطروحة على الطاولة ” مستبعدا ارسال قوات برية لمساعدة تركيا في إدلب، وقال إن بلاده تدرس ما يمكنها فعله من الجو.
واعتبر جيفري أن وقف إطلاق النار في سورية بضمانات روسية كان مؤقتا في السابق، وينبغي ألا يكون هذا هو الحال في إدلب. وتابع ” لا أعتقد أن روسيا والنظام السوري مهتمان بوقف دائم لإطلاق النار في إدلب، وتسعيان لتحقيق نصر كامل”. ولذلك أضاف مهددا أنه إذا انتهكت روسيا ونظام الأسد وقف النار فإن أمريكا وحلفاءها الأوروبيين سيردون بسرعة بإجراءات عسكرية واقتصادية وعقوبات رادعة.
هذا الموقف الأميركي – الاطلسي الجديد يعني أنه لم يعد موقفا تركيا، بل صار بعد الآن محميا بمظلة غربية قوية، ومدعما بأكبر قوة رادعة في العالم ممثلة بحلف شمال الاطلسي.
هذا التحول رسالة موجهة للروس وبقية الحلفاء من سوريين وايرانيين واتباعهم جميعا، وستكون روسيا مسؤولة عن ضبط كل الحلفاء على الارض. وتتضمن التصريحات تهديدا واضحا بتدخل قوات الناتو بسلاح الجو لردع أي طرف ينتهك وقف إطلاق النار، بما فيهم الطرف الروسي. وفي المحصلة يعني هذا التصريح أن الغرب سيحمي بالقوة بقاء تركيا مسيطرة على ادلب وبعض القرى القريبة منها، لكي لا يفكر الروس بانتهاكها وتكرار ما حدث.
المصدر: المدار نت