خيّب فوز مرشح الحزب الديمقراطي، جو بايدن، أمل أنظمةٍ وقوى سياسية كثيرة، أوّلها الأنظمة التسلطية، فللرجل مواقف تقول برفضها، وتأييده الديمقراطية في العالم، وأوّل الخائبين النظام في السعودية، ممثلاً بولي العهد، محمد بن سلمان، وبعده ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، وهناك الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وملك البحرين تكملة للسابقين، والذي يرسم سياسات بلاده وفقاً للهوى السعودي… والسياسة العربية في كثير منها تُبنى على الأوهام والمناكفة! وهناك من سَخِرَ بمرارة قائلاً إن معسكرا انتصر وآخر سقط في عالمنا، وكأنّ معسكراتنا “دولنا” من تقرّر السياسات الأميركية، فيما هذه تقررها مؤسسات الدولة هناك، وإذ تعطي مجالات واسعة للرئيس، فإنها هي من تتحكّم بالسياسة العامة للدولة. وهذا يعني أن ما أسّسه الرئيس السابق، باراك أوباما، لم يبتعد عنه كثيراً الرئيس الخاسر أخيرا ترامب، وما أسسه الأخير لن يبتعد عنه الرئيس المرتقب بايدن كثيراً. وبالتالي، ومهما قَدّم من برنامجٍ انتخابيٍّ مختلفٍ عن ترامب، فإن الانتقال إلى البيت الأبيض سيفرض على بايدن سياسات محدّدة، وباعتباره رجل مؤسسات، فإنه سيصغي إليها كثيراً.
يُجمع المحللون أن ترامب شعبوي، ويميني، وفيه صفات كثيرة أعظم أو أردأ، وكلّها تستهين بمؤسسات الدولة الأميركية والاتفاقيات العالمية. وعكسه بايدن، وبالتالي من شبه المؤكد أن الأخير سيعيد أميركا إلى الاتفاقيات الدولية التي خرجت منها بقرارات من ترامب (المناخ، مجلس حقوق الإنسان، دعم “أونروا”، الاتفاقيات التجارية وغيرها). ولكن ذلك لا يعني أن بايدن سيهتم كثيراً للديمقراطية في عالمنا، أو سيسقط أنظمة تسلطية أشير إلى بعضها أعلاه. هذا وهم أيضاً، ربما إدارته ستستغل ما تراكم في زمن ترامب، من سياسات دولية لأميركا، وبما يحقق لها حضوراً عالمياً من جديد، وربما تسعى إلى التوازن بعلاقات أكثر عقلانية بين الدول. وهذا لن يكون لصالح دعم جماعة الإخوان المسلمين في منطقتنا أو إيران والعودة إلى الاتفاق النووي كما كان. وكذلك لن تتخلى الولايات المتحدة عن اتفاقيات التطبيع التي عقدها ترامب ورئيس حكومة إسرائيل نتنياهو مع بعض القادة العرب.
ظهر تخوفٌ من محللين أتراك أن بايدن سيكون متشدّداً مع حكومة بلدهم، عكس ترامب الذي كان هاتفه مفتوحاً للرئيس التركي، أردوغان، “طيلة الوقت”. وكتب مروان قبلان، في مقاله “عن توجهات إدارة بايدن الخارجية” (العربي الجديد، 11/11/2020)، أن بايدين سيبني سياساته انطلاقاً من اتجاهين: نفعي (أوباما)، وآخر مؤيد (أخلاقي)، ويعتمد على حقوق الإنسان والالتزام بالديمقراطية. ما هو غير صحيح الاعتقاد بأن بايدن سيلتزم ببرنامجه الانتخابي، أو سيكرّر سياسات أوباما، وكذلك لن توضع خيارات محدّدة مسبقاً أمامه، تدور رحاها بين نفعيٍّ وأخلاقيٍّ. الأدق أن بايدن سيعتمد سياساتٍ مرتبطة بالتوازنات العالمية، ومصالح الإدارة الأميركية، وسيرسم مع إدارته سياسة عالمية جديدة، وفيها عودة إلى تفعيل المؤسسات الدولية، والتي لا تتناقض مع سياسات اللبرلة الجديدة والعولمة، والتي لم تبن نظاماً عالمياً ديمقراطياً وإنسانياً، وإنما نظاماً عالمياً فيه سيطرة مطلقة للدول العظمى على العالم.
الخلاف بشأن سياسات ما قبل بايدن، ومعه، سيكون حول شكل السيطرة على العالم، أي بين أميركا والصين أولاً، وتالياً، ستبني الدول الأقل “عظمة” سياساتها وفقاً لأميركا أو الصين، وكذلك الدول الإقليمية؛ وبالتالي، من شبه المؤكد أن اليمين العنصري والشعبوية تلقيا ضربةً عالمية، ويشمل الأمر كل القوى الشعبوية في أوروبا والعالم، وسيعود التصعيد ضد كل من الصين وروسيا، وستعاني روسيا “المدللة عند ترامب” من تبوؤ الديمقراطيين الإدارة الأميركية.
لن تنعم إيران وحلفاؤها بفرص كبيرة، كما في زمن أوباما. ولن تكون طريق العودة إلى البرنامج النووي مفتوحة، فإيران تفرض تمدّداً كبيراً في المنطقة، وهذا مرفوض من تركيا وإسرائيل وروسيا والدول العربية. وفي العراق، هناك خلاف أميركي إيراني وثورة شعبية. وبالتالي، في السعادة الإيرانية بانتصار بايدن تسرّع، وإن سيتفاوض الأخير مع إيران على القضايا كافة، وهذا خيار سيريح إيران، ولكنه لن يكون معبَّداً بالسماح لها باستئناف برنامجها النووي، واستمرار سيطرتها على العراق أو سورية واليمن؛ هذا أصبح مرفوضا حتى أميركيا. والإدارة الأميركية هي، وليس ترامب، من فرضت سياسات الأخير في سورية والعراق.
تقول العقلانية والواقعية إن السياسة العربية، أنظمة ومعارضات، لا تنطلق في إقرار سياساتها من المصالح الكلية للمواطنين، ولا من السياسات العامة للدول، وهو ما حاول تلمسّه علي العبد الله في مقاله “السياسة وضرورة النظرة الشاملة” (العربي الجديد، 11/11/2020).
والقصد هنا أن الأساس الصلب لتغيير سياسات الإدارة الأميركية أو تركيا أو إيران أو إسرائيل، وكذلك روسيا، هو تغيير السياسات الوطنية، أنظمة ومعارضات، وهذا إشكال كبير لم تفهمه الدول التي دعمت الثورات المضادّة، أو القوى التي شكلت ثقلاً أساسياً في الصراع السياسي منذ 2011، ونقصد الإسلام السياسي، وكذلك القوى الديمقراطية “المتعدّدة الأشكال”. إذا، لن ترى الولايات المتحدة، أو أية دولة عظمى، أو إقليمية، قيمة للعرب، مجتمعين، قبل أن يتبنّوا سياسات وطنية للتغيير السياسي والاجتماعي والكلي بعامة، وبما يعزّز الديمقراطية شكلا للحكم، وحكم القانون للفصل في المنازعات بين كل أفراد المجتمع، وآليات النهوض الاقتصادي (الزراعة والصناعة) وتحسين شروط المفقرين في مجتمعاتنا العربية. لا أريد الابتعاد عن هدف المقال، ولكن لا يمكن الكلام عن رداءة السياسة العربية من دون توضيح للقضايا المغيبة، وإخفاض قيمة السياسة لتكون تكتيكاً سياسياً بائساً، يتغير تباعاً على وقع سياسات الدول العظمى والإقليمية.
فاز بايدن، والسيئ في ذلك كله، وعلى الرغم من خساراتنا الكبرى منذ 2011، والتي أفضت إلى سيطرة كل من إيران وتركيا وروسيا وإسرائيل، لم نتعلم منها شيئاً. انتقلت الإمارات، بتغطية سعودية، من حربٍ في اليمن، إلى تدخلٍ صفيق في ليبيا، إلى تطبيعٍ “تافه” مع عدو العرب، وفي ذلك لم تتقدّم (ومعها البحرين) بمبادرة واحدة لإعادة الوحدة إلى الخليج، أو لتسوية الأوضاع في اليمن وليبيا. وفي سورية راحوا يناوئون تركيا، ويتقرّبون من النظام السوري، وكذلك المعارضات أو القوى السياسية هنا وهناك. لم ينتهجوا حتى الآن سياسات وطنية كلية، تترفع عن مصالحها الضيقة لهذا التنظيم أو ذاك، وبدورهم يرتهنون إلى دول أخرى كتركيا مثلاً.
السياسة العربية رديئة بامتياز، وتتطلب تغييراً كبيراً في توجهاتها كافة، لتكون وطنية، أي تتبنى نهجاً كليّاً، وبشكلٍ استراتيجي، يعتمد على مشاركة الشعب في إدارة كل شؤون الدولة، وهذه قضية معقدة، ومفتاحها يبدأ بإقرار النظام الديمقراطي والعدالة الاجتماعية والحريات السياسية بكل أشكالها، وليس بانتظار الفرج من عند بايدن فقط.
المصدر: العربي الجديد