فتحت اتهامات بشار الأسد للمصارف اللبنانية بالتسبب بالأزمة الاقتصادية في سوريا، باب السجال بشأن مدى ترابط الأزمات الاقتصادية في هذين البلدين الشقيقين، انطلاقًا من تاريخ العلاقة المعقدة بينهما، وانقسام موقف القوى اللبنانية من النظام السوري بين حليف ومعارض.
الفيديو المسرب لكلام الأسد الذي جاء قبل أيام، خلال جولة في معرض تجاري بدمشق، أثار ضجّة كبيرة بقوله إنّ جوهر المشكلة الاقتصادية، لا يكمن بالحصار الدولي لسوريا وقانون “قيصر” الأميركي، وإنما بسبب الأموال التي أخذها السوريون إلى لبنان وأودعوها في المصارف اللبنانية ثم قامت الأخيرة بحجزها.
أمّا اللافت، فكان في ادعاء الأسد أن ودائع السوريين في المصارف اللبنانية تقدر ما بين 20 و42 مليار دولار أميركي، معتبرًا أنّ هذا الرقم غير المحسوم يعدّ مخيفًا في الاقتصاد السوري.
تأتي اتهامات الأسد عقب فرض المصارف اللبنانية منذ نهاية 2019 قيودًا مشددة على جميع مودعيها، حيث فرضت ضوابط صارمة على سحب الأموال أو تحويلها للخارج، في وقت تجاوزت فيه تداولات الدولار بلبنان عتبة الـ 7 آلاف ليرة لبنانية بعد أن كانت 1515 ليرة للدولار الواحد قبل الأزمة.
لهذا كانت الإشكالية الأولى التي أثارتها اتهامات الأسد، هي ما حقيقة رقم الودائع السورية في المصارف اللبنانية، ولماذا أظهر الأسد هذه الهوّة في التقدير بين 20 و42 مليار دولار أميركي؟
مسار الأزمتين
يصف الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف اللبنانية سمير حمود الأرقام التي ادّعاها الأسد بالمبالغة، مشيرًا إلى أنه قبل الأزمة المصرفية في لبنان، كان حجم الودائع في لبنان لغير المقيمين حتى يونيو/حزيران 2019، لا يتجاوز 37 مليار دولار أميركي، وبطبيعة الحال ليس جميع أصحابها من حاملي الجنسية السورية. أمّا بعد الأزمة، فقد تراجع حجم ودائع غير المقيمين من 37 إلى 28 مليار دولار أميركي.
وفي أحسن الأحوال، وفق حمود، إذا بلغ حجم الودائع السورية نسبة 25% من إجمالي ودائع غير المقيمين في لبنان، لن تتجاوز 6 مليارات دولار من أصل 37 مليار دولار قبل بدء الأزمة المصرفية في عام 2019.
وأشار حمود -في تصريح للجزيرة نت- إلى أن معظم المودعين السوريين في لبنان يحملون صفة “المودع الفردي”، أي أن أموالهم كانت خارج تداول تمويل سوق التجارة في سوريا ولا تؤثر على التداولات السورية بالعملات الصعبة.
كما يوضح أنّ المصارف اللبنانية أصبحت تتهرب من التعامل مع المودعين السوريين منذ عام 2011، أيّ مع اندلاع الحرب، خوفًا من أن تطالها العقوبات.
ويرى حمود أن المصارف اللبنانية هي من تكبدت خسائر طائلة، إذ كان لديها نحو 8 مصارف في سوريا، لكنها خرجت من ملكيتها بعد اندلاع الحرب هناك.
اقتصاد معطل
على المستوى السوري، يعتبر عبد الناصر الجاسم -محلل اقتصادي وأكاديمي سوري مقيم في تركيا- أن ربط الأسد للأزمة الاقتصادية في بلاده بحجز أموال المودعين السوريين في لبنان لا علاقة له بمنطق الاقتصاد السوري، لأن الأزمة الاقتصادية في سوريا ليست وليدة عامٍ فحسب من عمر أزمة المصارف اللبنانية، وإنما دخلت في سنتها العاشرة.
وقال إن الاقتصاد السوري شبه معطل في التجارة الخارجية، ما أثر على دخول وخروج العملات الصعبة.
ووصف الجاسم -في تصريح للجزيرة نت- كلام الأسد بأنه يستخف بعقول السوريين في المناطق التي تقع تحت سيطرته، ولا بد من سؤاله بصيغة معاكسة -وفق الجاسم- لماذا هذه الودائع موجودة أصلا في المصارف اللبنانية، ولماذا يضع السوريون أموالهم خارج سوريا؟
ويعود الجاسم إلى فترة الثمانينيات، ويشير إلى أن سوريا حينها شهدت أكبر عملية إيداع لرجال أعمال سوريين في لبنان، وأن حجم الأموال التي هاجرت من سوريا إلى لبنان طائلة، ولا يوجد رقم دقيق، لأن جزءا من هذه الأموال ذهبت بخط أسود أو عسكري وليس بشكل قانوني.
وأشار الجاسم إلى أن السوريين كانوا على سبيل المزاح يقولون إن هناك “شوالات” من الأموال كانت تتجه نحو لبنان، ويذكر أن بعض الأرقام التي نشرتها صحف سورية كانت تتحدث عن 50 مليار دولار تم إيداعها في لبنان.
ما سبب هجرة الأموال السورية إلى لبنان؟
يعتبر الجاسم أن البيئة المالية والمصرفية في سوريا كانت بيئة طاردة، بينما لبنان قبل أزمته كانت سمعته المصرفية جيدة، إضافة إلى تاريخ الشراكة التي جمعت رجال الأعمال اللبنانيين والسوريين، ولا سيما أن سوريا لم تملك البنوك الخاصة قبل عام 2003 – 2004، وفق الجاسم.
ومع ذلك، يؤكد الجاسم -على ما قاله سمير حمود- أن جزءا كبيرا من الأموال السورية لم تهاجر بعد الحرب وإنما قبل 2011، وأن معظم أموال السوريين في لبنان كانت فردية وبقيت خارج تداول سوق التجارة السورية.
وأشار الجاسم إلى أنّ حقيقة الأزمة الاقتصادية السورية تفاقمت بعد دخول قانون “قيصر” حيز التنفيذ، وأن الإنتاج المحلي تآكل لأكثر من 67%، أي أن العجلة الاقتصادية صارت لا تعمل بأكثر من 33%، ثم توالى انهيار الليرة السورية لأن الدولة كانت تمول من عجزها وتطبع العملات الوطنية من دون رصيد ما قلّص من حجم قيمتها.
في المقابل، يجد خبير اقتصادي لبناني واسع الاطلاع -يتحفظ على ذكر اسمه- أن الأرقام التي ادعاها الأسد حول حجم ودائع السوريين في لبنان (بين 20 و42 مليار دولار) قد تكون واقعية نظرًا لعوامل مختلفة.
ويعود الخبير إلى أغسطس/آب 2019، حين داهم الأمن السوري جمعية “البستان” التي كان يترأسها رامي مخلوف ثم صارت تعمل تحت إشراف بشار الأسد، مذكرًا أن الأخير كان يسعى للضغط على ابن خاله لاستعادة الأموال المهربة إلى خارج سوريا، ومن بينها تلك المهربة إلى لبنان.
وفي الشهر نفسه -وفق الخبير أيضًا- بدأ الدولار في لبنان يسجل أول ارتفاع في مستوياته بين 1530 و1540 ليرة، نتيجة سحب الدولارات من الحسابات السورية في المصارف اللبنانية بكميات كبيرة.
ويرجع الخبير ضخامة ودائع السوريين في لبنان وترابط الأزمة بينهما لأسباب مختلفة، يشرح بعضها للجزيرة نت على الشكل الآتي:
– الودائع السورية المصرفية في لبنان قديمة جدا، تعود إلى الخمسينيات، وكل الإجراءات التي اتخذتها المصارف اللبنانية، تؤثر بشكل مباشرة على العلاقة المصرفية بين لبنان وسوريا.
– الودائع السورية في المصارف اللبنانية كبيرة، ولا تندرج جميعها تحت خانة “ودائع غير المقيمين”، لأن نسبة كبيرة من المودعين السوريين إما يحملون الجنسية اللبنانية، أو يضعون أموالهم باسم زوجاتهم اللبنانيات، أو لديهم ودائع تحت غطاء أسماء كيانات لبنانية.
– شكّل لبنان المنفذ المصرفي الأهم للاقتصاد السوري، لأن دخول العملة الصعبة لسوريا تجعل من سيطرة صاحبها عليها محدودة. مثلًا، إذا أراد تاجر سوري أن يورد إلى سوريا، ليس من السهل الحصول على الدولار، فكان يلجأ إلى تحويل جزء من أمواله إلى لبنان للاستفادة من السرية المصرفية وتسهيلا لعمله، ثم يحول جزءا آخر لسوريا لتبرئة نفسه أمام السلطات المحلية.
وبعد أن صارت عمليات سحب الدولارات من لبنان “غير ممكنة”، شكّل الإجراء ضغطًا كبيرًا على نظام التعاملات المالية في سوريا.
– شكّل وجود ما يناهز مليون لاجئ سوري في لبنان، مصدرًا أساسيًا للعملة الصعبة في سوريا بعد الحرب، لكن أزمة الدولار في لبنان، قلّصت من قدرة اللاجئين السوريين على تحويل الأموال، لأنهم يتقاضون أجورهم الزهيدة بالليرة اللبنانية، ولا يستطيعون شراء الدولار في لبنان من السوق الموازية.
التهريب والارتباط المشوّه
وواقع الحال، يتعدّى اضطراب العلاقات السياسية بين لبنان وسوريا إلى تعقيد العلاقات الاقتصادية لدرجة يصعب فكّها، مصرفيا وتجاريا وتهريبا.
ويشير عبد الناصر الجاسم إلى أنه بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020، تأثرت إلى حدّ كبير قنوات التجارة غير الرسمية (التهريب) بينهما. ويصف الارتباط بين اقتصادي البلدين، بالارتباط المشوه، لأن علاقتهما قائمة على العجز وليس على الدعم الحقيقي المتبادل.
وفي السياق، ترى المحللة الاقتصادية اللبنانية الصحفية عزة الحاج حسن، أنّ العلاقة الاقتصادية بين لبنان وسوريا تتفوق في القطاع التجاري على المصرفي.
وقالت للجزيرة نت إنّ تجارة البلدين تنشط منذ عقود على مستوى التجارات الغذائية والاستهلاكية، سواء عبر التجارة المقننة، أو عبر تجارة الظل (التهريب)، لكن حجم تجارة الظل تفاقم خلال الحرب نتيجة الحصار على سوريا.
وأشارت عزة، إلى أن سوريا تشكل المعبر الوحيد لتجارة لبنان البرية، نحو الدول العربية والخليجية. وعن قيمة التجارة بين البلدين، تؤكد صعوبة رصدها، لأن غالبيتها غير مقننة ولا تسجل في جمارك البلدين.
وأوضحت أنه أثناء شح الدولار في لبنان، تبين أن هناك مبالغ وبضائع ضخمة تذهب من السوق اللبنانية نحو سوريا “أي تهريب البضائع المدعومة دولاريًا من مصرف لبنان، أي خسارة البضائع والدولارات معا”.
ويتوقع مراقبون أن تتفاقم تداعيات الأزمة الاقتصادية اللبنانية على سوريا في حال رفع مصرف لبنان دعمه عن المواد الأساسية والمحروقات، مما يعني أن أسعار المواد المهربة إلى سوريا ستتضاعف، وتتضاعف معها الأزمة في البلدين.
المصدر: الجزيرة. نت