تم حسم التنافس على رئاسة الولايات المتحدة للأعوام الأربعة القادمة، انتهت مرحلة ترامب، وستبدأ مرحلة بايدن قريبا. وعلى الرغم من ضراوة المنافسة بين المرشحين لا يظنن أحد أن الشعب الامريكي هو الذي حسم المنافسة الديمقراطية، وهو الذي اختار أو قرر ، ولا يظنن أحد أن الفائز هو مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن ، ولا يظنن أحد أن الذي خسر الجولة هو الحزب الجمهوري .
الدولة العميقة الجبارة في الولايات المتحدة هي التي اختارت وحسمت وقررت التغيير، وهي التي انتصرت، كما في كل المرات، لأن المصلحة العليا للدولة العملاقة اقتضت اختصار حقبة ترامب مكتفية بدورة واحدة، واقتضت وصول بايدن.
ترامب شخصية ” شمشونية ” غير نمطية، تغرد خارج السرب، ومستعدة دائما لضرب قواعد اللعبة السياسية، وتهديد الأصول الدستورية، وتحطيم المعبد على رؤوس الجميع. لم يكن “جمهوريا” لأنه لم يكن “حزبيا” بالمعني الحرفي للكلمة، ولم يتخرج من صفوف أي حزب، ولا فضل لأي حزب عليه، وهناك أكثر من مائة مليون أميركي على شاكلته. هو تحالف مع الحزب الجمهوري عندما قرر الترشح، ولم يكن ما يمنع “الحزب” من تبنيه ومباركته، طالما أنه يميني أكثر من ارستقراطية الحزب العريقة.
بهذه الخصائص يغدو ترامب خطرا على الدولة العميقة، يمكن أن تتحمله دورة رئاسية واحدة لإثبات جدية الديمقراطية الاميركية، ولا يمكنها تحمله دورتين، لا سيما أنه سيكون أقدر على الحركة في الدورة الثانية، لو فاز. ويبدو أن البنتاغون مطلع على نيته الذهاب لحرب حاسمة مع إيران إذا لم تحقق العقوبات عليها أهدافها. وهذا ما لا تريده (الدولة العميقة)، وهي التي ظلت تسعى لاستعادة العلاقة المميزة معها، منذ ثورة 1979 حتى اللحظة.
وعلى العكس فإن بايدن، ابن شرعي للمؤسسة الدستورية والسياسية الملتزمة، وابن مطيع للدولة العميقة، تربى طويلا في مدرسة الحزب الديمقراطي.
لقد قام ترامب بثورة عميقة وحقيقية ضد أبوية وكهنوتية الدولة البيروقراطية، وديكتاتورية الحزبين، ولكنها ثورة يمينية متطرفة، جنحت للعنصرية، وقسمت المجتمع الذي يعاني تاريخيا من فسيفساء عرقي حقيقي. ومع إن ترامب فقد الرئاسة إلا أنه لن ينتهي سياسيا، ولن يتحول رئيسا متقاعدا وساكنا، كجورج بوش أو كلينتون، لأنه في الواقع أسس مدرسة سياسية وأيديولوجية ستستمر أمدا غير قصير، وستلعب دورا مؤثرا في الاعوام القادمة من خارج الحزب الجمهوري، وأكبر منه. وستدعمه كتلة شعبية أميركية هائلة، كما ونوعا، شاهدنا استعدادها للسير معه الى النهاية، وجاهزيتها للقتال دفاعا عنه، وعن القيم التي حملها.. ترامب ظاهرة ستعمر طويلا، وستستمر في التأثير والتغيير.
أما نحن في سورية فإن علينا أن نتهيأ لعودة ” الديمقراطيين ” للحكم، وهم الذين خبرناهم، وخبرنا سياستهم الخرقاء تجاه الثورة السورية، والمقتلة الدموية التي لطخت وجه المجتمع الدولي كله طوال عشر سنوات، وتتحمل إدارة أوباما مسؤولية سياسية واخلاقية أكيدة عنها، وعما ترتب عليها من كوارث ومحن وعذابات لشعبنا.
وعلينا أن نتوقع من بايدن سياسة قريبة من سياسة رئيسه السابق، لأنه لم يظهر له أي ملمح يعبر عن معارضة لمواقف رئيسه في تلك السنوات الثماني 2009 – 2016 تجاه الملف السوري، حين كانت الثورة السورية في أوج قوتها ووهجها، وكانت تحظى بتأييد مائة دولة على الأقل. ولذلك لا يملك أحدنا جسارة التنبؤ بمواقف أكثر قوة وحزما تجاه جرائم روسيا وإيران والأسد في بلدنا الذي ما زال يتعرض للتدمير والابادة والعدوان تحت عنوان اعادة بسط سلطة الدولة على كامل اراضيها.
وقد يكون أخطر ما يقدم عليه بايدن في السنوات الاربع القادمة تخفيف العقوبات على إيران والعودة للالتزام بالاتفاق النووي معها، وعقد صفقة للتطبيع مع نظام جزار سورية. ولا شك إن هذه التوقعات السوداوية تضيف الى محن الشعب السوري مزيدا من المحن وتعدم أي أمل بدور أميركي ايجابي لصالح شعبنا المنكوب.
صحيح أن ترامب لم يفعل الكثير لشعبنا، ولم يتدخل بحزم لمعاقبة الأسد ووقف جرائمه، وصحيح أنه أعطى الضوء الاخضر للروس لسحق الثورة، أو ما بقي منها، منذ الشهور الاولى لإدارته عام 2017، إلا أن ترامب حاول جادا التخلص من الاسد، لولا أن الدولة الاميركية العميقة بمؤسستها العسكرية اعترضت بقوة على خطته لقتل الأسد. وعمل بقوة لمحاصرة التوسع الايراني في سورية وفي المنطقة وتحجيم قوتها، وأمر بقتل مجرم الفرس قاسم سليماني، واستعمل الذراع الاسرائيلية لضربها في سورية، وهدد حزب الله بحرب تنهي اسطورته في لبنان والمنطقة لولا أن الحزب ومن خلفه ايران أدركتا جدية التهديد، فأذعنتا فورا، ورضختا للشروط الاميركية – الاسرائيلية، وأولها ترسيم حدود لبنان مع اسرائيل، وابعاد الصواريخ الدقيقة عن اسرائيل، ووقف عملياته الارهابية عبر العالم.
لقد أثبت ما كان يدعى (محور المقاومة) في الشرق الاوسط، بأنه مقاولة سياسية رخيصة، لا تختلف عن نظام الصمود والتصدي الأسدي منذ خمسين عاما، وأثبتت إيران أنها جاهزة لعقد صفقة كبرى مع امريكا واسرائيل، وأثبت حزب إيران في لبنان استعداده للاستسلام بلا شروط للعدوين الأكبر والأصغر مقابل أن يحمي رأسه في لبنان، واثبتت جزار دمشق جاهزيته لإخراج علاقاته الاستراتيجية مع اسرائيل من السر الى العلن.
لذلك يجب ألا نستبعد صفقة كبرى بين ادارة بايدن وطغمة إيران، وبين اسرائيل وإيران على حساب العرب، وبين عصابة سورية واسرائيل أولا ثم أميركا ثانيا، طالما أن العرب قد أصبحوا أيتام العالم في هذا العصر.
للأسف، لا يجب أن نتوقع انقلابا في سياسة واشنطن تجاه المنطقة، أو تغييرا ملموسا في سياستها تجاه سورية، ومن الواضح أن هناك استمرارية منهجية للسياسة الاميركية في كل الادارات المتعاقبة تجاه المنطقة وقضاياها طالما ظل العرب بهذا الضعف.