على الرغم من التطورات الكبيرة التي شهدتها ساحة الحرب المشرقية المتعدّدة الأطراف في الأشهر القليلة الماضية، لم تتقدّم القضية السورية كثيرا. يمكن الإشارة، في هذا السياق، إلى التطور اللافت للموقف الأميركي تجاه طهران، منذ مجيء الرئيس ترامب إلى السلطة، وبشكل خاص منذ تولي الفريق اليميني مقاليد السياسة الخارجية، ونقل محور الجهد والمواجهة من القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى تحجيم الدور الإيراني الجيوسياسي، بدءا من وضع حد لأحلامها النووية وصناعة الصواريخ الباليستية. وإيران هي القوة الرئيسية التي تتناقض مصالحها بالمطلق مع أي حلّ يمهد لتطبيع الحياة السياسية والاجتماعية في سورية، ويفتح طريق المصالحة الوطنية.
ولا تقل عن ذلك أهمية نتائج مواجهات الشهرين الماضيين في ريف حماة وحلب وإدلب، والهزائم المتكرّرة التي تعرضت لها قوات الأسد على أيدي فصائل أكثرها من الجيش الحر، على الرغم من الدعم الروسي الكثيف لها بالطيران الحربي، حتى اعتبر بعض المحللين أن تثبيت حدود وقف النار في المواقع الراهنة، وحرمان المحور الروسي الإيراني الأسدي من أي إمكانية للتقدم، يشكلان هزيمة عسكرية وجيوسياسية لروسيا التي حلمت بأن تكون دولة الانتداب الوحيدة على سورية.
ومن هذه التطورات، وفي السياق نفسه، يدخل تشديد العقوبات على طهران وحرمانها من الحد الأدنى من مواردها النفطية، كما يدخل تراجع دول عربية وأوروبية عن عزمها الذي لم تخفه، حتى أشهر معدودة من هذا العام، على إعادة العلاقات مع منظومة الأسد، والسعي إلى تأهيلها السياسي من جديد، على أمل إعادة تجنيدها ضد الحركات الإسلامية السياسية التي أصبحت البعبع الذي يسكن مخيلات النظم التسلطية العربية، ويقضّ مضاجعها.
ولا يقل أهميةً في هذه التطورات تنامي الصراعات بين أطراف الحلف الروسي الإيراني الأسدي ذاته، والمعارك التي تدور بين الدولتين على احتلال مواقع السلطة والقرار، الأمنية والعسكرية، والتنافس على وضع اليد على الموارد الاقتصادية، ولا التخبّط الذي يشهده نظام القتلة، نتيجة الضربات المؤلمة التي يتعرّض لها، وبداية انفكاك حاضنته الاجتماعية عنه، على مختلف انتماءاتها الطائفية والمناطقية، نتيجة فقدانها الأمل بمخرجٍ قريب، ينقذ رهاناتها ويجنبها الإفلاس القريب.
وفي المقابل، ومن الطبيعي أيضا في مثل هذا الوضع، والتعثر المستدام في إيجاد حل سياسي ينهي الحرب، ويخرج البلاد من النفق المظلم الذي وضعت فيه، أن تبدأ بعض القوى السياسية التي عملت في دائرة السلطة أو المعارضة باسترجاع أنفاسها، والتفكير في العودة إلى القتال، ولكن هذه المرة من خلال وحدات مقاومة صغيرة هنا وهناك، وأن تستعيد روح الثورة التي اعتقد كثيرون من أبنائها أنفسهم أنها خمدت، وخفت اتقادها من جديد، كما تشير إلى ذلك التظاهرات والمظاهرات التي تخرج من وقت إلى آخر، حتى في مناطق السيطرة الروسية الإيرانية ضد الأسد وبقائه، كما حصل في أكثر من مدينة ومنطقة سورية.
أقول على الرغم من كل هذه التطورات والمؤشرات الإيجابية المؤهلة للاستمرار والتطور بشكل أكبر، لتغلق أي أفق للتفكير في إمكانية تأهيل النظام، أو تثبيت الأسد في الحكم، فإنني لست متفائلا في حصول أي تقدم في حل القضية السورية التي هي، قبل أي شيء آخر، قضية شعب قدم ملايين الضحايا من الشهداء والمعتقلين والجرحى والمهجّرين، من أجل تأكيد حقه في سيادته على وطنه، ورفضه أن يتنازل عن حقوقه وحرياته وكرامته، وأن يقبل بتحويل هذا الوطن إلى مزرعة عبوديةٍ لأسرةٍ تعمل لصالح الدول الأجنبية، وتستقوي بها على شعبها، أو إلى مناطق نفوذ لهذه الدول ذاتها.
مصدر القلق والخوف وضعف التفاؤل هو استمرار النخبة السياسية السورية المعارضة التي التحقت بالثورة، أو انشقت عن الأسد، أو التي هي في طريقها إلى أخذ مسافتها عن نظامه، في تبعثرها وانقسامها، وعجزها عن الخروج بنفسها من حالة التخبط والإحباط التي لا يبدو أن لديها القوة والحنكة اللازمتين لتجاوز عقباتها في القريب، والانتقال إلى مرحلةٍ جديدةٍ تمكّنها من تنظيم نفسها، والتعاون في ما بينها، على بلورة مشروع سياسي واضح، ومقبول لدى أطرافها، ولدى الجمهور المتطلع إليها، والعمل بجد وثقة على إنجازه، فالذي يهيئ لقيام الدولة وتوحيد المناطق المتناثرة والمتباعدة التي انفصلت عنها، أو استقلت بنفسها، بسبب الحرب الطويلة وانقطاع التواصل في ما بينها، هو وجود نخبة موحدة، أي تعمل على مستوى البلاد، وتفكر على هذا المستوى الشامل أيضا. ومن دون هذا النمط من النخب السياسية، لا يمكن إقامة دولة، ولا إعادة بنائها، إلا كما حصل للأسد والنظم الملكية المطلقة التي سادت في القرون الوسطى، أي على أساس القوة والشوكة، وتوفر الوسائل لتجنيد جيشٍ قوي من المرتزقة، المحليين أو الأجانب، والتي كانت فكرة الجيش الانكشاري التابع مباشرة للسلطان، والمستقل كليا عن المجتمع والرعية، التجسيد المثالي والأقصى لها. وهو ما لا تملك نخب المعارضة أي وسيلةٍ لتحقيقه.
لا يخلو الأمر بالتأكيد من ظهور إرهاصات تجسّد داخل صفوف الثورة والمعارضة تقدّم نداء الدولة على نزعة السلطة المليشياوية السائدة، وتنامي الشعور بضرورة اختيار قيادة مركزية قادرة على توحيد النخب السياسية وراءها، وإدماجها في حركة واحدة، في ما وراء انتماءاتها الأهلية الطائفية والطبقية والمناطقية والقومية. وقد عبر عن شيء من هذا التطور الالتفاف الواسع حول عبد الباسط الساروت، وتتويجه، بعد استشهاده، رمزا للثورة ولكفاح السوريين البطولي، وعزة أنفسهم وكرامتهم. وكذلك تنامي الوعي بضرورة التحرّك على الأرض، والانخراط في العمل السياسي الحقيقي الذي يستطيع وحده تغيير الوقائع والتصورات التي ارتبطت بالثورة، وإعادة تأهيل القضية السورية قضية حرية وتحرّر شعب، لا حربا أهلية طائفية، كما عبرت عنه حركة التضامن مع إضراب رئيس المجلس البلدي السابق لمدينة حلب، بريتا حاجي حسن عن الطعام، احتجاجا على الصمت العالمي على القتل المستمر للأطفال والمدنيين عموما في إدلب وتهجير سكانها.
ولكن لا تزال هذه الإشراقات للأسف ضعيفة ومحدودة، بالمقارنة بما يسود صفوف النخبة السياسية التي نشأت في حضن الثورة والمعارضة من تخبط وغرق في مستنقع انعدام الثقة المتزايد، والتشكيك بالنفس، وعملية التحطيم المتبادل للرموز والقوى والأفكار والقيم على حساب تقديم المثال الإيجابي، والإشادة بالتضحيات الكبرى، والتركيز على روح التسامح وتعميق التواصل والحوار بين الأفراد الذي لا يمكن من دونه إعادة توحيد القوى وتأسيس جماعة ذات إرادة واحدة، واعية لأهدافها وقادرة على تلمس طريقها، والانتظام في مشروع عملي لتجديد مسارها.
(2)
للأسف، لا تزال المراجعة الواسعة التي يشهدها الوسط السياسي المعارض، وفي أغلب الأحيان، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، تسير في الطريق الخطأ، لأنها بدل أن تركّز تفكيرها على البحث في القضية وملابساتها وتعقيداتها، والخيارات السياسية التي كان من المطلوب اتخاذها، ومعرفة صواب ما طبّق منها وخطئه، تكاد تقتصر في انتقاداتها على المحاسبة على النوايا والتشكيك فيها، والتركيز على الخصائص الشخصية للأفراد الذين تبوأوا مناصب أو مواقع قيادية هنا وهناك، وتصب جميعا في دائرة الانتقام وتغذية الصراعات والأحقاد المتبادلة. وقد نجمت عن هذا النهج نزعة قوية لتعميم الاتهامات، وضرب ثقة السوريين بعضهم ببعض وبأنفسهم، ولجلد الذات وسيلة للتحرّر من عقدة الذنب الذي يمثله الفشل في تحقيق الأهداف المنشودة، وفي النهاية التباري في التشكيك في أمانة الأفراد ونزاهتهم وإخلاصهم، كائنا من كانوا. وبدل أن تبرز الشروط الموضوعية للفشل وتناقش، وتنتقد الخيارات السياسية والاستراتيجية والتنظيمية لهذه القيادة أو تلك، أو لمن أتيح لهم تسلم قسط من المسؤولية والمناصب القيادية في المؤسسات السياسية أو العسكرية أو الإغاثية، تركز جهد النقاد على البحث عن مثالب “خصومهم” أو شركائهم الأخلاقية، واختلاق ما أمكن منها إذا احتاج الأمر، واستسهال الإدانة والإعدام السياسي للأشخاص الذين تحمّلوا المسؤولية، وتوجيه اللوم لهم وإلصاق التهم الجزافية بهم، باعتبار ذلك هو التفسير الرئيسي، بل الوحيد، للفشل الذي واجهته الثورة، والطريق الصحيح لتجاوزه. من هنا، نشأ خطاب التخوين، ليس لأشخاصٍ محدّدين وبالعلاقة مع أخطاء واضحة ومعروفة، وإنما للمعارضة ذاتها، بصرف النظر عن الأشخاص والتنظيمات، ومن ورائها للسياسة ذاتها التي وضعت في مواجهة الثورة بوصفها أصل الفساد الذي أصابها، بل تجاوز الأمر ذلك إلى التشكيك في وجود شعبٍ سوريٍّ بالمعنى البسيط، أو هوية سورية يمكن الاستناد إليها، لإعادة لملمة أشلاء الدولة والمجتمع الممزّق وإحيائهما.
لا يمكن لمثل هذه المراجعات أن تصحح الأخطاء التي وقعت فيها قيادات الثورة ونشطاؤها، وهو الغاية من أي مراجعةٍ سياسية، تختلف عن المحاكمة والمحاسبة التي لا تعني سوى المذنبين الذين ثبتت عليهم بالقرائن أمور فساد أو أعمال مناقضة للثورة ومنهج تفكيرها وخياراتها الأخلاقية والسياسية. إنما هي تسعى، من خلال إدانة بعضهم والتبرؤ منهم، إلى تبرئة نفسها من المشاركة في الفشل، على سبيل انتزاع مواقع القيادة من الجيل الأول، بينما تبقى الأسباب الحقيقية، والأخطاء الفعلية التي ارتكبتها القيادات السابقة في خياراتها السياسية والاستراتيجية والأيديولوجية بعيدة عن أي مناقشة أو انتقاد، وبالتالي عن أي تعديل أو إصلاح. هكذا يبقى الفكر المعارض و”الثوري” يدور في حلقةٍ مفرغة من الاتهامات المتبادلة، وتضخيم العيوب والمآخذ الشخصية والنفسية. وتكون الحصيلة الوحيدة لهذه المراجعة، كما هو واضح اليوم، توسيع الشرخ وتغذية روح الخصومة بين الأفراد والتيارات والقوى التابعة لمعسكر المعارضة والثورة، وتعميق مشاعر العداء في ما بينهم، وتنفير بعضهم، أكثر من قبل، من بعض.
ولكن الخاسر الأول من هذا النمط من المراجعات التي تتصدر وسائل التواصل الاجتماعي على يد نشطاء أصابهم الإحباط واليأس والخوف من المستقبل المظلم، هو الحقيقة ذاتها التي تجد نفسها ضحية تصفية الحسابات الشخصية، والحرب غير المعلنة للتحلل من المسؤولية ورميها على الآخر. وفي موازاة ذلك الاستسلام لمعارك التدمير الذاتي، والتشويه المتبادل، واختراع ما يشبه محاكم تفتيش تحاسب على النوايا والاعتقادات، وتغذّي روح الكراهية والانتقام داخل المعسكر الواحد ذاته. ومن الواضح أن هذه المراجعات تقود بالضبط إلى عكس المطلوب تماما، أي إلى قتل المجتمع السياسي الجديد الناشئ والخارج من بين أنقاض نظام العبودية والاستبداد، وقطع الطريق على أي مراجعة سياسية جدّية، تبدأ بالمسائل السياسية والاستراتيجية والتنظيمية الأساسية، لا بالمشكلات الشخصية، وتقوم على تصويب الخيارات وإصلاح العلاقات والتحالفات الداخلية والخارجية، في سبيل الحفاظ على روح المقاومة ورفض التسليم بالأمر الواقع، والاستسلام من وراء التعزّي بالشكوى، والبكاء على الأطلال الدارسة.
(3)
يسود اليوم اعتقاد عميق بأن الثورة الشعبية كانت ستحقق أهدافها وحدها، لولا تدخل المعارضة السياسية وأحزابها وشخصياتها. وأن الحل يكمن في العودة إلى الثورة العفوية التي تعرف طريقها بنفسها، ولا وسيلة لذلك إلا بالتخلّص من المعارضة، والتبرؤ منها، ودفن مؤسساتها وأحزابها وإعدام رجالاتها الذين فشلوا في فهم الشعب، والرد على مطالبه، وتنفيذ إرادته وتصوراته. بعد ذلك ستولد الثورة حتما من رمادها من جديد، وتفرز قياداتها الأصيلة، المتماهية معها والمرتبطة بها، ويحصل التقدّم ويتحقق النصر.
والحال أن ما تبطنه هذه الفكرة أمران يغلقان أي باب على التقدم والاستمرار في المقاومة. الأول تشييء المعارضة والنظر إليها باعتبارها شيئا، لا وظيفة سياسية، وإدانتها كمؤسسات فاسدة وكفكرة معا، والتعلق بوهم نوعٍ من الشعبوية الخالية من السياسة، والمعادية لروح العمل المسؤول والمنظم والتخطيط الاستراتيجي الطويل المدى. والثاني قتل السياسة مسبقا، من خلال النظر إليها بوصفها مصدر الفساد والانتهازية والوصولية، ومطابقة مفهومها مع التفسير الشائع للمكيافيلية، والسعي وراء المصالح الشخصية السلطوية والمادية. وينجم عن ذلك تفريغ العمل الثوري من مضمونه العقلاني والتاريخي، وتخفيضه إلى انفعال وأفعال منفردة ومتراكمة، ونشاطية فائرة، بصرف النظر عن فائدتها ومآلاتها.
والحال، ليس هناك جدار يفصل الثورة عن المعارضة. بالعكس، تتقدّم الثورة بمقدار ما تنجح في إفراز جماعة منظمة، تفكر بمنطق السياسة وحساباتها، وتفاوض، في اللحظات المناسبة، على تسوياتٍ تضمن لها تحقيق الأساسي من تطلعاتها، كما نشهده اليوم في تطورات انتفاضتي السودان والجزائر، اللتين تلعب القوى السياسية والنقابية المنظمّة فيهما دورا محوريا بمقدار ما تحظى بثقة الجمهور الثائر الذي يرى في ما تطرحه تجسيدا إلى هذا الحد أو ذاك لتطلعاته. وهذا هو الدور الذي فشلت في الاضطلاع به المعارضة السورية لضعفها، ولم تعرف بسبب ذلك كيف تتفاعل مع الثورة الشعبية، فهاجم بعضها الشعب، واتهمه بالطائفية والإسلاموية، والتحق بها بعضها الآخر من مستوى التبعية، ولم يقدم لها أي إضافة سياسية أو فكرية.
تبين التجربة السورية المرّة أن الشعبوية كانت أسوأ مرشدٍ لمعارضةٍ تريد أن تكون ثورية بالفعل، أي أن تقوم بواجبها، وأن تساهم، وهذه هي إضافتها الرئيسية، في عقلنة الجهد الشعبي الهائل، وتوجيهه نحو الطرق السالكة، وتثمير التضحيات الهائلة في مكاسب سياسية واضحة وملموسة، يصعب التراجع عنها، وعدم زجّ الثورة في معارك جانبية أو وهمية، أو إطالة أمد الصراع من دون طائل.
لا يوجد أي حل في تحطيم فكرة المعارضة، كبناء للاستراتيجيات والخطط والتنظيمات والتحالفات السياسية، ولا في إدانتها والتخلص منها، بذريعة العودة المستحيلة إلى عفوية الانتفاضة الثورية، فالانتفاضة أنجزت هدفها وانتهت، ولم يبق بعدها مجالٌ لمتابعة مسيرة الثورة، واستكمال مهامها سوى في تطوير العمل السياسي، وبناء قطب المعارضة المنظّمة، السياسية وربما العسكرية أيضا، أي القائمة على حساباتٍ عقلانيةٍ وواقعيةٍ وواعيةٍ لا عفوية. والحل بالنسبة لتشكيلات المعارضة القائمة المنتهية صلاحيتها، ليس في إعدام المعارضة ذاتها كفكرة وممارسة، ولكن في تثوير خياراتها وإصلاح مؤسّساتها، وطرد المتسلقين عليها، وبناء منظماتٍ سياسيةٍ جديدةٍ، أكثر فاعلية وتواصلا مع الجمهور الشعبي من سابقتها.
وبالمثل، لا يوجد أي حلٍّ في الطلاق من السياسة، بسبب تعهيرها من نظام الطغيان، لتجريد الشعب من قدرته على التفاهم والتجمع والمقاومة، وإنما يكمن الحل في تغيير مفهومنا الفاسد للسياسة، أو عن السياسة الذي ورثناه من حكم العبودية، والذي ارتبط عن حق بالانتهازية والبحث عن المصالح والمنافع الشخصية، وإبداله بإرساء مفهومٍ صحيحٍ وسليم للسياسة، يضع في مقدمة أهدافه، أولا تأكيد أولوية المصلحة العامة واستقلالها عن المصالح الخاصة، وضرورة احترامها وتطويرها من أجل بناء أي اجتماعٍ سياسي حي ومستقر. وثانيا تعظيم معنى سوى شرعنة التقسيم الراهن للبلاد” المسؤولية السياسية، وما تتضمنه من حق الشعب في المساءلة والمحاسبة لأي مسؤول أو صاحب سلطة أو ولاية عامة، مهما كانت الظروف. وهذا يعني استعادة السياسة بوصفها إطارا للعمل العام في نظام ديمقراطي، يشترك فيه الجميع بالقرار، عن طريق ممثليهم المنتخبين، لا استخدام وسائلها للتكسّب ومراكمة المزايا والمنافع الخاصة مقابل خدمة السلطان، ومساعدته على تحقير الشعب، واستعباده والاستهتار بالدولة والقانون، كما هو الحال في ظل النظم القائمة على القهر والاستبداد.
بمقدار ما تبتعد عن السياسة، وتفشل في إعادة إحياء منطق عملها، وفي استبطان قيمها ومبادئها، من حيث هي خدمة الشأن العام وإصلاح أموره، وتعلم حمْل المسؤولية لتحقيق غاياتٍ سياسيةٍ أخلاقية ومنشودة، كالحرية والعدالة والمساواة، وبناء دولة القانون، تقضي المراجعات الراهنة على أمل بناء معارضة بالمعنى الحقيقي والتاريخي للكلمة، وفي استعادة السياسة والسيادة للشعب، وتحكم على أصحابها بالانتحار، بدل أن تفضي، كما يقتضي مفهومها، إلى إعادة توحيد النخبة السياسية وتقويم سلوكها ونزع العداوة من قلوب أعضائها، وإعادتها إلى الشعب كنخبة وطنية متضامنة ومتفاعلة معه، لا يمكن من دونها بناء أي ديمقراطية، وبالأحرى تلبية نداء تأسيس الدولة أو إعادة تأسيسها.
وما دمنا لم ندخل بعد في هذا الطريق القويم، ولم ننجح في توحيد النخب السياسية واستعادة الثقة فيها، أو إعادة بناء نخبة سياسية جديدة وفاعلة، لن نحصد من التقدّم الذي يحصل على مستوى تغير توازنات القوى، في الصراع الدائر على الأرض السورية منذ تسع سنوات، شيئا للقضية السورية والسوريين، فمن دون نخبة سياسية موحدة، ومتفاهمة على مرجعية وطنية واحدة، لا يمكن تشكيل سلطة، ولا استعادة الدولة وسيادتها، ولا الخروج بالتالي من منطق إمارات الحرب السائد اليوم، ولا إعادة توحيد المناطق المتباعدة والمدفوعة إلى إقامة ما يشبه الحكومات الذاتية المنفصلة بعضها عن بعض. المستفيد الوحيد من ذلك سوف يكون الدول التي سوف توظف نهاية الصراع الدموي على سورية، من أجل تبادل الاعتراف بمناطق نفوذها، وترسيخ قواعد وجودها على الأرض، وتحويلها إلى ما يشبه المحميات والمستعمرات، وتحويل السوريين، في المقابل، إلى لاجئين داخل سورية وخارجها. وفي هذه الحالة، لن تكون نتيجة المساعي التي يقوم بها المجتمع الدولي منذ ثماني سنوات لحل “الأزمة” سوى شرعنة التقسيم الراهن للبلاد، وتكريس غياب الدولة السورية، وتغييب شعبها عن مصالحه وحقوقه وحرياته ومستقبله.
المصدر: العربي الجديد