اندلعت الحرائق من جديد في سورية التي باتت تحترق منذ 2011، بعد أن كان المواطن السوري، قبل ذلك التاريخ، يعيش أزمات متلاحقة من الفقر والعسف السياسي والحرمان … إلخ. عادت الحرائق، هذه المرة، لتُتمم ما أتت عليه قبل فترة من ابتلاع الغابات التي حرقت معها حيوات الأهالي وذكرياتهم ومروياتهم. هذه المرة هي بالنسبة للسوريين تفصيل جديد، يكبر مع الهموم التي حملوها منذ 2011، فأضيف حرق الغابات امتداداً لكل التفجيرات والتهجير والموت الذي لفح السوريين ممن بقوا في الداخل أو من هاجروا وهربوا من الموت إلى الخارج.
لم تبق موبقة إلا ومورست على رؤوسنا، نحن السوريين المبتلين بداء انتظار اتفاق “الدول العظمى”، الدول التي تهتم باقتصاداتها على حساب دماء الأبرياء، رُبما هي تفصيلة العولمة التي تُشيئ الآخرين، تحديداً بلدان العالم الثالث، نحن الذين لا نستحق العيش وفق المخيال العولمي لتلك الدول، فلا يكترثون لحالنا، ولا أحد يخجل من تمزيق الأرواحِ في سورية وقتل شعبها، فها هي الحرائق تحول الخضَار والبيئة التي كانت محطة استقطاب لأغلب الدول العربية للسياحة والاستجمام، حوّلتها إلى صحراء بائسة مفتوحة على كل الاحتمالات.
في جزئية مريبة، أو لنقل كارثية، يستشفي بعضهم، أو في أفضل حالاته لا يكترث لِم أتت عليه الحرائق من كل الأفعال. علماً أن لا تجزئة للمواقف من الديمقراطية والحريات والأسى والإنسانية. بالأمس، أحرقت وجرفت وقطعت أشجار الزيتون في عفرين على يد فصائل المعارضة السورية التي استباحت عفرين، بموافقة ضمنية من روسيا. ثم قُطعت المياه عن مليون سوري في الحسكة السورية، وأيضاً بفعل من فصائل المعارضة السورية في سري كانيه (رأس العين) التي تلذذت بطرد الأهالي المحليين، وقبلها قصفت إدلب بالبراميل والطائرات الروسية، واليوم غاباتنا وقرانا تحترق، الهمُّ والضحية والشهيد واحدٌ لا غير، همُ السوريون وحدهم.
الشوارع والساحات أصبحت بيوتاً للمواطنين المتروكين وليمة سائغة في الفراغ الذي يعيشون فيه، ويدورون حوله، عاجزين عن انتشال ذكرياتهم وأحلامهم من بيوتهم، وتتمحور كُل جهودهم حول إنقاذ بيوتهم بالمشاهدة والتأمل، وحمل عُقدٍ نفسية ستتناقلها الأرواح إلى الأجيال القادمة وما بعدها. ببساطة، كان المواطنون يشاهدون حرق منازلهم ومزارعهم وحقولهم عبر شاشات التلفزة. وفي أحسن الأحوال، عبر المشاهدة المباشرة بالقرب من الحدث، وهل ثمّة ما هو أكثر بشاعةً وقسوةً وحملاً لإرثٍ من المظلومية من أن يتحوّل انهيار الأرزاق والأملاك الخاصة إلى مجرد تفصيل صغير لمالكيها، عبر المشاهدة وفقط المشاهدة، تماماً كحال الأهالي في عفرين الذين أجبروا على دفع جزيةٍ فاقت الألف دولار لقاء بقائهم في منازلهم، وتماماً كحال السوريين الفارّين من جحيم الحرب والقصف الذي طاول أغلب المدن السورية.
في أيام دراستنا الجامعية، نحن المتمتعين بالدراسة في الفروع النظرية، والتي كان الالتزام بالمتابعة الفيزيائية للمحاضرات تحصيلاً حاصلاً فيها، كانت غابات مصياف وجبال الكُرد، وعموم الساحل السوري، قبلتنا الشهرية أو النصف الشهرية، حيث التركيبة البشرية البسيطة والحُب وحسن الضيافة. أقمنا في ريف مصياف في منزل أحد الأصدقاء. حجم التفاف الجيران وأبناء الحي كان كافياً لنتعرّف على فقرهم واكتفائهم بالزراعة ومزارع الفاكهة مصدراً للدخل والعيش، كحال مُعظم الفقراء والبسطاء من الساحليين وأبناء الريف الذين اكتووا بنار الفقر والحرمان، في مقابل نمطية الثراء والسلطة التي كانت مسيطرةً على ذهنياتنا عنهم.
الإشكالات والكوارث لا تتمحور حول الحرائق حالياً فحسب، وإنما تتجاوز الدائرة لتكبر وتشمل أربعة عوامل متداخلة، تؤثر في مستقبل المناطق المحترقة، وتأثيرها على المستقبل السياسي والجغرافي لسورية.
أولها الأمن المجتمعي: حُرقت منازلهم. النقطة الفصل وجود أعداد ضخمة من أبناء المجتمع المحلي، ومن مختلف الانتماءات السياسية والدينية، أصبحت في العراء، حيث لا موارد ولا مكان يأتون إليه. وهو ما يساهم في إشاعة مزاج عام جديد، وتغيير في الأولويات والتوجهات، إذ ستنحصر الأولويات في الانتماء لجهةٍ تؤمن لهم قوتهم اليومي، ومع تشعب السيطرات ما بين “الجيش السوري، الإيراني، الروسي” في تلك المناطق، فإن خيارات الأهالي ستنحصر في الحصول على أيّ تفصيل أمني يتمكنون به من العودة إلى منازلهم، والحصول على مساعداتٍ لإعادة الترميم، هذا إن عادوا ولم يستقروا حيث لجأوا إليه، أو أكملوا خط سير نزوحهم الداخلي، صوب الهجرة الخارجية، وهو ما يعني أن تلك المناطق التاريخية أصبحت أمام تغيير في نمطية التركيبة السكانية، ورُبما نجد من يأخذ مكانهم مستقبلاً.
ثانيتها الأمن الغذائي: حيث الاعتماد شبه الكلي للمجتمع المحلي على الزراعة وأشجار الفاكهة والحقول المختلفة، والتي كانت جزءاً من تغطية حاجة الأسواق المحلية لمختلف المحافظات السورية، ما يعني أننا في اتجاه تعميق الأزمة الغذائية، نتيجة لضعف الإنتاج الزراعي في المنطقة الساحلية، وهو ما سيؤدي، بالضرورة، إلى الاعتماد على الاستيراد أكثر.
وثالثتها الثروة الحيوانية: حيث احتراق مساحات ضخمة من الأشجار والحراج ينتج ظروفاً جديدة صعبة جداً لأصحاب المواشي، عدا عن نفوق أنواع مختلفة من الحيوانات البرّية التي كانت تشكل عنصراً فعالاً في استقطاب السياح، ومع تضرّر قطاع المواشي بسبب الحريق وعدم توفر مساحات غير محترفة كافية للرعي في البرّية، وتأثيرها على السكان الفقراء في تلك المناطق، فإن مورداً آخر للأهالي فُقد، وهو ما يضخم من الفقر والحاجة.
رابعتها الأمن البيئي: الثابت في علم الأرصاد الجوية والجغرافية، وبحسب المختصين الزراعيين، أن المناخ يؤثر على زيادة معدل حرائق الغابات، وأيضاً هو يتأثر بحرائق الغابات، فالحرائق تتسبب بإطلاق كميات هائلة من الغازات المتسببة بالاحتباس الحراري، ومن أسوأها غاز أول أكسيد الكربون، وثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النتروجين. بينما تتسبب الغازات الناتجة عن حرائق الغابات والغبار الكربوني في انخفاض جودة الهواء، وتساهم الرياح في حمْل هذه الملوثات إلى مسافاتٍ بعيدة، وهو ما يؤثر على الصحة العامة، ويسبب أنواعاً مختلفة من الأمراض الصدرية والتحسّسية والسرطانات. كما أن حرائق الغابات تزيد من الزحف الصحراوي إلى المناطق الخضراء، وتفني مساحات شاسعة من التشجير في الغابات والأشجار، والتي تعتبر مصدراً أساساً لتأمين الأوكسجين في الطبيعية، إضافة إلى تسبب الحرائق في فقدان تماسك التربة، وزيادة حاميتها.
رُبما لا ربط مباشراً بين ما حصل العام الفائت من احتراق آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية في المنطقة الكُردية وما يحصل من غُبنٍ ونسفٍ لكل القيم الأخلاقية والإنسانية وانتهاكات فظيعة ضد المدنيين ، ومأساة أهالي إدلب وريفها، مع ما يحصل في الغابات والجبال والسهول السورية من حرائق ضخمة. لكن الثابت الوحيد أن تغريدة “سوريا تحترق” المنتشرة بكثافة على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة هي عمقنا ومآسينا جميعاً.
المصدر: العربي الجديد