من يتأمل الواقع السوري تصيبه الدهشة مما يحدث. نعرف أن السلطة، عبر خمسة عقود، دجّنت الفكر وشلّت الحركة السياسية، وعملت على تغييرات ديموغرافية تحفظ لها القدرة على استمرار التسلّط. ونعرف أن معظم السوريين تم غسل عقولهم من خلال مغريات الانضمام للحزب الحاكم، بحيث أمسى من غير المعقول أن تطالب بأبسط حق من حقوقك مالم تكن بعثياً. وهكذا تورّط البعثيون في تشكيل طابور خامس يدافع عن مصالح الأسرة الحاكمة التي ورّطت العلويّين أيضا فباتوا محسوبين عليها، وهم منها براء، إلا فئة قليلة لا تتعدى ألفي شخص يكنزون الأموال ويحظون بالجاه والسطوة.
أسباب كثيرة جعلت من السوري مثارا للسخرية لأنه مستكين إلى واقع مرير لا يستطيع منه فكاكاً. بعض السوريين خدعتهم شعارات الممانعة والمقاومة ومجابهة إسرائيل والإخوان المسلمين والإمبريالية التي تنتظر الفرصة للانقضاض على أرضنا. وآخرون آثروا الأمن والأمان وتكيّفوا مع واقع لا يملكون منه شيئاً، فيدعون على المستبدين سرّاً ويتملّقونهم علناً. أما من كانوا خارج السرب فهم سوريون يقرؤون الواقع بدقة ويعرفون مكامن الفساد ومصادر الإفقار
والهيمنة، بعضهم قاوم جهراً ودفع ثمن ذلك حياته أو جزءاً كبيراً منها حيث غيبَوا في السجون سنوات طويلة. وآخرون قاوموا بما هو متاح من خلال تمرير أفكارهم ومواقفهم من غير مجابهة، وإنّما كانوا يوارِبون ويستعملون أساليب لا يرقى المستبدِّون إلى فكّ رموزها، وليست لديهم الحنكة والثقافة التي تمكّنهم من قراءة ما بين السطور والمواقف.
لم أستطع، حتى الآن، من تشخيص الحالة التي تجعل بعض الناس الذين عاشوا في سوريا، يجلد الواحد منهم ذاته بآثام لم يرتكبها، أو يعزو سبب ما هو فيه إلى الابتعاد عن الدين أو عن الأخلاق الحميدة، أو يستلذ الاستعباد فيصنع من التافهين آلهة للعبادة.
متى سندرك أن شهوة السلطة والطغيان متشابهة لدى كل المستبدين الذين لا يجدون من يردّهم. وأن الجيش آلة للقتل إن لم تحصر مهامه في الدفاع عن حدود البلاد سيتوجّه للدفاع عن حدود القصور. وأن الشرطة ستتغوّل مالم تجد قانوناً حاسماً يردعها. وأن المنتفعين المتسلقين الطمّاعين يغصبون حقوق الآخرين بالقوة، وفقاً لشريعة الغاب، وقد يتستر بعضهم بالثقافة أو الدين لتحقيق غاياتهم. وأن وعي الناس بواجباتهم وحقوقهم وحرياتهم هو، وحده، يكفل العيش الكريم ويمنع عنهم الأذى ويجعلهم يفلحون في الدنيا والآخرة (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلاً).
الآن بعد تسع سنوات من بدء الثورة، غدا من اللازم أن نبسط أوراقنا جهراً ونحدد مواقفنا تجاه من يمتصون دماءنا، ولم يعودوا يتنقّبون بالدين أو بالوطن. هل نحن مع الحق الذي تدعونا الكتب السماوية والنظريات الفكرية إليه؟ يبدو واضحاً أكثر من سطوع الشمس أننا أمام خيار بين موقفين لا ثالث لهما: مع الشعب المستباح، أو المستبدين الذين يستبيحون كل شيء حرصاً على مصالحهم.
الغالبية العظمى الفاعلة على الأرض الآن هي الثوار بأطيافهم المختلفة، وثمة أمران لا خلاف عليهما بين الجميع: إسقاط العصابة الحاكمة وبناء دولة القانون التي تحرص على المساواة بين أبناء سوريا جميعهم بأطيافهم كلها، الدينية والإثنية والفكرية والسياسية.
تسعة أعوام ولم نتقدّم بالشكل الذي كان ينبغي علينا الوصول إليه. لكنني، قبل أن أدخل في تفاصيل الحل الممكن، ينبغي لي أن أبسط قناعاتي التي خبرتها على مدى العقود الماضية، وتأكّدت لديّ منذ الشهور الأولى لانطلاق الثورة، وهي أن السلطة في سوريا هشّة إلى درجة أنها أوهى من بيت العنكبوت. والصراعات الداخلية بين أفرادها وهيئاتها تزيدها اضطراباً ورعونة. كما أن الجهاز الأمني الذي كنا نخافه، وكان يظنه كثيرون، من داخل سوريا وخارجها، قويّاً وخطيراً، ما هو سوى كتلة من الغباء لا تعرف سوى الغدر والاغتيالات والاعتقالات العشوائية.
الجهاز الأمني لا يعرف شيئاً حقيقياً عن أي شيء أو أي أحد.. لا يمكنه أن يلاحق أي تنظيم ويكشف آليات عمله أو أفراده. وبعض المعلومات التي يأخذونها ليست نابعة من دقة تنظيمه أو تماسكه، بل هي تأتي من خلال الإطاحة بكرامة المئات وتعذيبهم وقتل الكثيرين منهم، كي يجبروا بعض المعتقلين على الإدلاء بمعلومات قلما تكون مدعومة بالأدلة أو الإثباتات.
ومادام الوضع كذلك، كيف لتلك العصابة الصمود كل هذه الفترة أمام ضربات الشعب المصرّ على النصر؟ هل الجيش هو الذي يُحكِم سيطرته فيدعم العصابة الحاكمة؟ بالتأكيد لا.. الجيش مهترئ متخلف لا يستطيع توجيه ضـــــربة صائبة إلى أي مكان، وليس بوسعه التخطيط لأي عملية ناجحة. إنه جيش قائم على التراتبــــية العسكرية بحيث يرتضي صاحب الرتبة الأولى تحقير الرتبة الأعلى له، جيش قائم على إتقان تقبّل الذلّ وتلقّيه بصدر رحب وتصديره للرتب الأدنى.
من المؤكد، بما لا يقبل الشك أن روسيا وإيران هما المخططان الأساسيان لما يجري، وهما اللتان تمدّان السلطة السورية بالسلاح والمال، وتقودان عملية الإبادة الجماعية للسوريين كي يركعوا للمصالح الروسية والمخطط الإيراني الذي يحرص على سوريا – المعبر الوحيد للمنطقة برمّتها.
ربما يكون ما قيل حتى الآن مقدّمات لا بدّ منها كي ندخل في صلب ما نرمي إليه، وذلك يحتاج إلى وقفات كثيرة مع الثورة السورية المستمرة حتى تحقيق أهدافها.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا