تسببت الجرائم التي ارتكبها النظام الأسدي ضد الشعب السوري بواسطة “الجيش” على مدى عقود من حكمه (1970 -) وفي عشرية ثورة الحرية عام 2011 – 2020 على نحو خاص الى تشكل ( ثقافة معادية ) وانتشار مواقف عشوائية ضد المؤسسة العسكرية بين السوريين ، وتبلور نوع من (التناقض العدائي) بين الشعب والجيش، وصل درجة نظر المواطنين اليه كجيش احتلال أجنبي .
هذه الحالة الشاذة مفهومة ولها مبرراتها وظروفها التي ولدتها. وبناء عليها تبنى الجيلان الأخيران اللذان انخرطا في ثورة الحرية 2011 وتحملا فاتورة الدم الباهظة على أيدي الجيش والاستخبارات والنظام أن هذا الجيش كان دائما معاديا للشعب ، ولم ينجز غير الدمار والاستبداد . وأنه مسؤول عن الهزائم العسكرية في الحروب مع العدو الاسرائيلي، وخسارة جزء غال من أرض الوطن ( الجولان ) .
وانسحبت هذه النظرة العدائية الى كل ما قام به (الجيش السوري) منذ أن نشأ ، وظهرت نظريات تعتبر تأسيسه على أيدي الاحتلال الفرنسي أساسا لهذا التناقض والعداء الحاد للشعب ، وخيانته المتأصلة … إلخ .
وتشمل هذه النظرة حرب السادس من تشرين/ اكتوبر 1973 لأنه يصعب على ضحايا الجيش بعد ما لاقوه وعانوه من نظام الأسد والآلة العسكرية أن ينظروا نظرة ايجابية الى حرب قادها حافظ الأسد ، ونفذها جيشه الذي يسيطر عليه علويون فاسدون وخونة .
هكذا اختلط الحق بالباطل ، وطغت ردود الفعل العشوائية على الحقائق التاريخية ، ولم نعد نميز بين التحولات التي جرت في عهد الأسرة العلوية الأولى ، وانعكست آثارها بعمق في كل مؤسسات الدولة ومجالات الحياة الوطنية ، وضاعت الايجابيات الوطنية الكثيرة التي حققناها كشعب بدمائنا وعقولنا وتضحياتنا ، في ظل أسوأ واصعب الظروف التي مررنا بها في حقبة الطغيان الشمولي .
ومن المؤسف أن تمر ذكرى حرب السادس من تشرين 1973 دون احتفال وطني يليق بها ، جراء سيطرة مشاعر السخط والنقمة والاحباط التي تراكمت في قلوب السوريين تجاه عائلة الأسد ، وجيشها القاتل الخائن الذي فقد مناقبية الفرسان والأبطال ، وانحدر الى مستوى المنظمات الاجرامية وجماعات المافيا والفساد .
وما أحوجنا لنظرة وطنية أكثر إنصافا وموضوعية وخالية من الضغائن والسوداوية تجاه العديد من الانجازات في كل العهود منذ الاستقلال الى اليوم ، خلال حكم الأسد وما قبله ، بل وما أحوجنا لإعادة كتابة تاريخنا ، وتوثيق أحداثه بأسلوب علمي محايد .
حرب تشرين ليست حرب الأسد :
في كل الأحوال لا يصح أن نعتبر كل ما حدث من إيجابيات التطور كأنه من بركات الأسد ، ولا يجب أن نقيم كل ما حدث من منظار العداء له . فالشعب السوري واصل عطاءه وتطوير بلاده بجهوده وعبقريته في كل المجالات ، وحقق الكثير من النجاحات في كل العهود ، وهذه هي طبيعة الأشياء .
أما بالنسبة للمؤسسة العسكرية فالموضوعية تقتضي القول إنها لم تكن بهذه الصورة الاجرامية الشاذة قبل استيلاء عسكر البعث عام 1963 على السلطة ، وإنما كانت هذه الصورة إحدى نتائج الانقلاب الذي خططه وقاده في الواقع ضباط ليسوا قوميين ولا وطنيين ، تسللوا لحزب البعث للوصول الى أهدافهم ، ولكنهم في الحقيقة من رواد مشروع مضاد اسمه (المشروع العلوي) ، وعلى رأسهم محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد،وعدد من حلفائهم من الطوائف والأقليات الصغيرة الأخرى .
لا يمكن القول إن الجيش السوري كان قاتلا للشعب السوري قبل عام 1963، ولا خائنا لبلاده ، وولاؤه لم يكن لشخص بعينه ، ولا لأسرة ، ولا لحزب ، أو طائفة ، رغم وجود ضباط منه تنطبق عليهم هذه النعوت . أما الجيش ككل فكان وطنيا محترفا ، ولاؤه للشعب ، ويطبق سياسة الدولة والحكومة . وكانت له بطولات وتضحيات مشرفة في الحرب ضد اسرائيل عام 1948 ، وفي طلبه للوحدة مع مصر 1958 ، وفي مواجهة التهديدات الخارجية اللاحقة .
أما التغيرات الخطيرة التي طرأت على عقيدته وأخلاقياته وسلوكياته ، وعلى بنيته الطائفية وهياكله وأدائه ومستواه القتالي ، فهذه كلها طرأت بالتدريج بعد 1963 ، واستفحلت بعد ما سمي الحركة التصحيحية التي نفذها حافظ الأسد عام 1970 .
بدأ رواد المشروع العلوي بطرد آلاف الضباط الوطنيين الأكفاء الحاصلين على أفضل الدورات العسكرية في الشرق والغرب بذرائع وحجج واهية ومختلقة ، في حين أن الدافع الحقيقي هو التخلص من الضباط ( السنة ) وإحلال علويين محلهم ، وقد حققوا هذا الهدف تدريجيا خلال عقدين . وبعد أن تمت لهم الغلبة صار ولاؤهم للعلوية الطائفية ، ومن مصلحتهم بقاء الحكم بأيدي علويين حققوا لهم أحلاما وأماني قديمة ملأت رؤوسهم ، وكانت أشبه بالأوهام ، ولكن الثلاثي العلوي محمد عمران ، وحافظ الأسد ، وصلاح جديد ، حولوها سياسة ممكنة .
الفساد لم يتفشى بقوة وعلى نطاق واسع إلا في عهد الأسد . وهكذا فتخريب الجيش وانحرافه وفساد عقيدته وسلوكياته بدأت كلها ببطء مع انقلاب 63 وتفاقمت بعد انقلاب 70 .
في حرب 1967 كان الجيش مستعدا للقتال والتضحية ضد اسرائيل ، لكن القيادة السياسية كما ثبت هي التي انزلقت للخيانة والمؤامرة وسلمت الجولان للعدو بلا حرب ثمنا للحصول على الدعم الاسرائيلي – الصهيوني للبقاء في السلطة . ولكن ظروف الهزيمة الفاضحة والثقيلة التي منيت بها جيوش الدول العربية الثلاثة في حرب الأيام الستة ولَّدت في الوطن العربي كله مناخا شعبيا ضاغطا بقوة للاستعداد لحرب جديدة هدفها إزالة آثار حرب 67 . وتلقف جمال عبد الناصر هذه الاندفاعة القومية الواسعة التي بدأت في اصرار الشعب المصري على تجديد الثقة بقيادة الرئيس عبد الناصر بعد تنحيه عن الرئاسة ، ثم اكتسبت بعدا وزخما عربيا في قمة الخرطوم العربية .
إنجاز عربي تاريخي :
بدأت مصر بقيادة عبد الناصر جهودا اسطورية لإعادة بناء جيشها الحديث على قواعد علمية وسياسية وفنية جديدة ، ثم بدأ هذا الجيش بعد شهور قليلة من الكارثة الاشتباك مع العدو في سيناء وعبر القناة وفي البحر المتوسط ، وتطور القتال الى حرب استنزاف يومية ، لقيت دعما شعبيا وسياسيا عربيا كبيرا ، وتوازى معها صعود العمل الفدائي من جانب الثورة الفلسطينية ، وانخراط الجيشين الاردني والسوري في القتال ضد اسرائيل بشكل متقطع .
في هذا المناخ العربي أصبح التخطيط لحرب تحرير الاراضي التي احتلتها اسرائيل هو الأولوية المطلقة للعمل السياسي العربي ، ولذلك لم يكن ممكنا بأي شكل لنظام دمشق حتى لو أراد إيجاد عذر لعدم الاستعداد للحرب القادمة . وعندما وقع انقلاب حافظ الاسد عام 1970 كان مدفوعا بقوة الضغط الشعبي العربي والاندفاعة القومية للحرب ، ولاكتساب شرعية لانقلابه على رفاقه البعثيين ، ولنظامه الطائفي ، لا سيما أنه متهم بالمسؤولية عن تسليم الجولان .
لقد أصبحت الحرب القادمة “استحقاقا” إجباريا لا يمكن تفاديه أبدا ، تحت أي مبرر ، وعنوان استراتيجية كاملة عسكرية وسياسية واقتصادية ، على المستوى الوطني لدول الطوق والمستوى القومي لكل الدول والشعوب العربية ، من المغرب الى العراق . فالمغرب أرسل قوات كبيرة للقتال على الجبهة السورية ، وكذا فعل العراق والاردن ، وارسلت السودان والجزائر وليبيا والكويت ،قوات الى الجبهة المصرية ، وارسلت السعودية قوات الى الاردن ومصر ، وقامت اليمن بدور مهم في اغلاق باب المندب امام الاسطول الاسرائيلي ، وتكفلت السعودية بقيادة الدول العربية لحظر البترول عن اميركا وبريطانيا وهولندا ، وظهر سلاح النفط سلاحا فعالا باترا كالسلاح الناري في ايدي الجنود . وقامت المقاومة الفلسطينية بدور عسكري بارز أيضا وقاتلت على ثلاث جبهات . وقدمت جميع الدول الغنية هبات ومساعدات مالية سخية للدول المحاربة ، وظهر التضامن العربي في أجلى وأقوى مظاهره . واستطاعت القوات المصرية اجتياز أكبر مانع طبيعي في التاريخ وأقوى حاجز عسكري ، وخشيت اسرائيل انهيار قواتها واستعدت لاستعمال السلاح النووي كما أعلنت اميركا اعلان حالة التأهب النووي . واثبت الجندي السوري قدرته على الهجوم والمبادأة والصمود رغم فشل خطط القيادة العسكرية .
حرب تشرين / اكتوبر ملحمة بطولية جرى الاستعداد لها ست سنوات ، وأظهرت قوة العرب على المسرح الدولي وأصبحت دول الغرب تزحف على جباهها طلبا لصداقة العرب خوفا من سلاح الطاقة . وظهرت كتب كثيرة في امريكا واوروبا ترشح العرب كقوة عالمية سادسة ، لا سيما أن جميع دول افريقيا وجميع الدول الاسلامية وقفت وراء العرب تأييدا لها في قتالها المشروع ضد العدو الاسرائيلي ، والتواطؤ الامريكي البريطاني معه .
لذلك لا يجوز اليوم بعد 47 عاما من تلك الحرب المجيدة الإساءة لها، والتقليل من قيمتها بسبب مواقفنا المبدئية من حافظ الاسد ومن جرائم جيشه فيما بعد تلك الحرب. ويجب عدم تظليل صورة العرب وتجاربهم في العقود الماضية كلها بالسواد والقتامة، والتشكيك بكل شيء.
حرب تشرين / اكتوبر 1973 كانت نقطة الذروة في كفاح العرب المعاصر ضد أعدائهم لاسترداد حقوقهم ، وقد أثبتت فعالية الأسلحة والامكانيات المتوفرة لهم ، وقدرتهم على الوحدة والاصطفاف معا والعمل الجماعي في مواجهة العالم كله وتعديل موازين القوى فعليا وعلى الأرض بقوة السلاح وبقوة الموقف ، وسيطروا على ثرواتهم البترولية وحرية القرار ، بحيث غدا العرب في سبعينيات القرن الماضي قوة كبرى مهابة على الصعيد العالمي ، وصاروا سادة الجمعية العامة للامم المتحدة تدعمهم أكثر من مائة دولة ، ويصدرون القرارات التي يريدونها ، بما فيها تصنيف الصهيونية كحركة عنصرية ، وفتح ابواب الأمم المتحدة أمام ياسر عرفات ليلقي خطاب فلسطين فيها ، وهكذا تتابعت النتائج الايجابية السياسية على حرب اكتوبر / تشرين على كل المستويات .
إلا أن الهجمة المضادة التي شنتها اسرائيل وأميركا وحلفائهما على العرب بعد ذلك كسرت أسلحتهم وجرت بعضهم للانزلاق في مسارات الحلول التفاوضية والتفريط بالمواقف واضعافهم سياسيا وعسكريا واقتصاديا ، وجاءت زيارة السادات للقدس عام 1977 واتفاقية كامب ديفيد تعبيرا عن انهيار جديد وعودة للتشتت ، استمرت مفاعيلهما حتى اليوم ، ووضعت حدا لمشروع القوة العربي .
المصدر: الشراع