لطالما سادت في الأوساط الثورية والمعارضة مقولات أضحت لاحقاً من المسلمات التي جرى الركون إليها، واستغلت في أحيان كثيرة من قبل البعض لترسيخ ما يناسب مواقعهم أو توجهاتهم الفكرية والسياسية، بينما لا تعدو هذه المقاولات أن تكون مجرد أوهام.
من أبرز هذه المقولات عبارة أن “الدول لو أرادت إنجاح المعارضة لفعلت على الفور” وهي العبارة التي تلقفها كثير من قادة المعارضة والقائمين على مؤسساتها السياسية والعسكرية من أجل تبرير تقصيرهم وفشلهم أولاً، ولمقاومة أي محاولات لإصلاح هذه المؤسسات ثانياً.
بعبارة أخرى يريد معظم هؤلاء القول إنه بوجودهم أو بوجود غيرهم، ومع هذا الهيكل التنظيمي والنظام الداخلي لمؤسسات الثورة أو بهياكل وأنظمة أخرى، لم تكن المعارضة لتحقق أي نتيجة مختلفة طالما أن القوى العظمى والدول المؤثرة في الصراع السوري لا تريد تغيير مسار الأحداث في سوريا.
يطرح هؤلاء أمثلة عدة للتدليل على صحة وجهة نظرهم، ويرددون باستمرار أن الولايات المتحدة عندما أرادت غزو العراق عام 2003 جمعت المعارضة من مختلف الأطياف بين ليلة وضحاها، وأرسلتهم إلى بغداد لتسلم الحكم فور إسقاط نظام صدام حسين، دون أن تنتظر حل مشاكل وخلافات هذه المعارضة، وأن الأمر ينطبق على التجربة الليبية عام 2011 عندما توافقت الدول على تشكيل المجلس الوطني الليبي خلال ساعات فقط تمهيداً لإصدار قرار التدخل العسكري لإسقاط نظام معمر القذافي.
لكن طرح المثالين السابقين يقدم نصف الحقيقة فقط، أو ربما أقل من ذلك، فصحيح أن مجلسي الحكم الانتقالي في العراق وليبيا تم تشكيلهما بسرعة قياسية وعلى نحو يظهر تجاوز قوى المعارضة في البلدين خلافاتهما، لكن ذلك لم يؤد إلى نجاح هاتين التجربتين.
فمنذ ١٧ سنة والعراق ينتقل من سيئ إلى أسوأ، سواء أكان على الصعيد الأمني حيث نادراً ما تشهد البلاد فترات استقرار طويلة، أو على الصعيد الاقتصادي مع إفلاس خزينة الدولة الغنية بالنفط والثروات إلى حد العجز في كثير من الأحيان عن دفع رواتب الموظفين بسبب الفساد المستشري والمرتبط أو الناتج بطبيعة الحال عن فساد القوى السياسية المسيطرة على البلاد، والتي لم تستطع الاستمرار في توافقاتها الأولية التي جرى إكراهها عليها في اللحظات التي سبقت الهجوم الأميركي على العراق.
وفي ليبيا لا يبدو الأمر مشجعاً على الإطلاق، إذ تظهر في كل يوم مشكلات جديدة بين القوى السياسية والاجتماعية في شرق البلاد وغربها، حول تقاسم السلطة والثروات والتبعية للمحاور إلخ. ما فجر حرباً مفتوحة بين حكومة طرابلس وجيش مصراتة، وهي حرب لا تبدو أنها قابلة للحل في المدى المنظور، ما جعل هذا البلد الثري أيضاً يعاني أزمات ضخمة، وأصبح مواطنوه يبحثون عن فرصة للجوء في أوروبا وغيرها من البلاد المستقرة.
بمعنى واضح، إن استشهاد كثيرين من مسؤولي المعارضة والقائمين على مؤسساتها الرسمية بالتجربتين الليبية والعراقية فيما يتعلق بتنظيم المعارضة ونقل الحكم إليها هو استشهاد خاطئ من قبل هؤلاء، بل هي أمثلة عليهم وليست لهم، إذ لا يمكن لأي عاقل أن يعتبر ما حصل في العراق وليبيا نجاحاً لمعارضة الأمس-سلطة اليوم يمكن اعتباره نموذجاً يبنى عليه.
إن استشهاد كثيرين من مسؤولي المعارضة والقائمين على مؤسساتها الرسمية بالتجربتين الليبية والعراقية فيما يتعلق بتنظيم المعارضة ونقل الحكم إليها هو استشهاد خاطئ
بل لدينا العديد من الأمثلة الأخرى التي تؤكد على حتمية فشل الحلول الخارجية، خاصة عندما تطبخ بشكل متسرع ويتم تجهيزها دون دراسة واعية، وإقامتها على أسس واهية، فتكون نتائجها كارثية في النهاية، ولنتذكر هنا لبنان، البلد الذي أنهى حربه الأهلية قبل أكثر من ثلاثين عاماً، ومع ذلك تتكشف الأيام والسنوات طوراً بعد طور عن الفشل الذريع لاتفاق الطائف الذي قدم حلولاً بالإكراه، من فوق أو من الخارج، بينما المطلوب حلولاً ناجزة تنبع من الداخل، تعالج جذور المشاكل وتنزع الألغام لا أن تكتفي بردمها وإخفائها، وهو أمر لا يتحقق غالباً إلا بحلول عادلة وموضوعية تكون مقبولة من جميع القوى والمكونات.
وعليه، كان على المسؤولين في مؤسسات المعارضة أن يتلقفوا كل دعوات إصلاح هذه المؤسسات بتعطش، حتى وإن اقتضى الأمر إعادة بنائها وفق أسس وقواعد جديدة، بدل إهمال هذه الدعوات أو التقليل من أهميتها أو جدواها، بل أحياناً، وربما غالباً ما جرى التشكيك بدوافع أصحاب هذه الدعوات وتوجيه اتهامات مختلفة لهم، ما جعل الأجواء والعلاقات والاتصالات بين قوى المعارضة وشخصياتها المؤثرة سلبية جداً، تحكمها الحساسيات والثقة المفقودة والخصومة والعداء في بعض الأحيان !
لذا فقد كان طبيعياً أن يتم التعامل بحذر مع توجهات رئيس الإئتلاف الحالي د. نصر الحريري التي أعلن عنها لإصلاح المؤسسة التي تعتبر واجهة مؤسسات الثورة وآخر ما تبقى من رموزها الجامعة، إذ لا يتصور كثيرون من خارج الائتلاف أنه يمكن أن تكون هذه التوجهات صادقة ويعتقد بعضهم أنها مجرد مناورة من الحريري، بينما يعتبرها منافسوه من داخل الائتلاف نفسه بأنها توجهات تستهدف تثبيت سلطته وتفرده في قيادة المؤسسة.
والواقع أن كل ما تقدم لا يغني عن ضرورة استغلال هذه المرحلة التي توقفت فيها كل مسارات التفاوض مع النظام، من أجل إعادة ترتيب البيت الداخلي للمعارضة، والقيام بالإصلاح الضروري واللازم لجميع مؤسساتها، بما فيها فصائل الجيش الوطني ولكن على رأسها الائتلاف بطبيعة الحال، لعل ذلك ينقذ ما تبقى من أوراق في أيدينا.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا