الهزيمةُ التي لا تجمع أبناء سورية

   عبير نصر

من الطبيعي أن يتّضحَ الجحيم بعدما صار المحظور مباحاً، إذ كان الطابع المسالم الذي عاشته سورية، خلال عقودٍ طويلة، يشي بنوعٍ من الخضوع الضمني وهيمنة نظامٍ أخفى حقيقة المجتمع السوري، تعايش معه أبناؤه بقدرةٍ إلهية، لينفجر لاحقاً في وجه الجميع. ومنذ سنين طويلة، اعتاد السوريون أن يدفعوا رسومَ كلّ شيء، حتّى الأحلام التي تقبع تحتَ سقف المستحيل، وكان فنّ الجوع لا يقتصر على تأمين القوت اليومي، إنما كانت لعنة الجوع تشمل كلّ شيء، الجوع إلى الحرية والكرامة والجمال والقانون والسلام والعدالة والديمقراطية .. إلخ. وعلى الرغم من استحالة هذا في مملكة الصمت، بدا السوريون مسكونين بلعنة الحبّ لبلادٍ بائسةٍ وظالمةٍ في آن، وحتى في أوج استقرارها الذي كان يرقد على بركان الطائفية والاستحقاقات السياسية المؤجلة، لم تستطع أن تقدّم الحدّ الأدنى من الحقوق لأولادها. والذي حصل بعد دخول الأزمة السورية عامها العاشر أنّ الطبقة المسحوقة وحدها من دفعت فواتير المصالح العالمية، حتى وصل القهر إلى درجةٍ أجبرتها على امتهان شتّى فنون اللامبالاة، وكأنّ البلاد ما عادت تعنيها لفرط ما توجّعت، دولةٌ واحدةٌ بعشرات الجيوش والأعلام، وما زال ألمُ الشعب واحداً والجوع والذلّ واليأس والموت واحداً؟

ومن الواضح أنّ السوريين لا يعيشون فقط أزمةَ الوقود والكهرباء والأغذيةِ والأدوية ولعنة العطش والحرائق، أو الغلاء الفاحش الذي باتَ يطاول كل شيء، أو التدهور الاقتصادي الذي لم يعد في الوسع تجميله أو إخفاؤه، خصوصا بعد قانون قيصر. هم يعيشون أسوأ من ذلك، يعيشون أزمة فقدان الأمل ويتعاملون بمنطق “أنا ومن بعدي الطوفان”، فكلّ سوريّ يقاتل لأجل أن يعيش يوماً آخر ولو على حساب أخيه السوري. وتنذر هذه الأخلاق بانفجارٍ قريب، ولا يعرفُ أحدٌ أين ومتى وكيف سيحدث. ولن يكون الانفجار هادئاً ورومانسياً بالطبع. سيكون عنيفاً بمقدار القهر والذلّ والفقر الذي اختزنه الناس في دواخلهم على مدى السنوات الماضية، ولن يكون هناك ما يخسرونه. لذا سيكون الخوف الأكبر من عدم القدرة على استيعابه، ليتحوّلَ إلى كرةٍ من نار تأكل كلّ ما حولها، وتستمر بالتدحرج لتحرق أكبر مساحةٍ ممكنة.

حصل هذا كله خلال سنواتٍ عشر فقط، شهدتِ البلادُ فيها أسوأ أنواع الكوارث الإنسانية والاضطرابات السياسية. وعلى الرغم من أنّ سورية شهدت، في عام 1949، ثلاثة انقلاباتٍ عسكرية في غضون ثمانية عشر شهراً، إلاّ أنها كانت تمشي بخطى واثقة وهادئة نحو مستقبلٍ مشرق يضمن حياةً كريمة وعادلة، ومع أنها تقبع على قمة مجتمعٍ غير متجانس، يتّسم بانشقاقات أفقية عميقة، لكن في زمنٍ مضى، خصوصا في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته. كانت الدولة والمجتمع متفقين معاً، في وحدةٍ متماسكة، في مواجهة عدوّ واضح، على عكس اليوم، فما عاد السوريّ يعرف عدوَّه القريب من عدوِّه البعيد، ولا المباشر من غير المباشر.

ولا يخفى على أحد أنّ سورية باتت اليوم البلدَ الأكثر فقراً وخطورةً في العالم، وكيف لا تكون كذلك؟ والأوطان لا يبنيها الإنسانُ الناقصُ الذي لا يملكُ من العزيمةِ أو الإرادةِ أو القوّة شيئاً، بينما سيتساءل دائماً ماذا يبني؟ ولمن يبني ولماذا؟ عندما يكون مسمّى الوطن مزرعةً مملوكةً من مافيا فاشيّة قهريّة، تتحوّل بسببها إلى مملكةٍ للرعبِ والموت والإخضاع..، هل سيبني سجوناً يعيش فيها، أم يبني مؤسساتٍ مجهّزة في الأساس لنهبهِ وتجويعه؟ هل سيبني بيوتاً لله في بلادٍ تفتقر أدنى حقوقِ العدالةِ والكرامة والإنسانية وتكافؤ الفرص؟ وهل يبني جامعاتٍ مصنّفةً في أدنى سلالم التعليم العالمي، تُخرّج أجيالاً سيشعرون بالنقص مدى الحياة؟ وهل .. وهل .. وهل ..؟

ومع انهيارِ مشروعِ الوطن النهضوي الحداثي، وخيانته ممّن ادّعوا حمله، عندما أقاموا ممالكَ الخوفِ، والفسادِ، والفئوية، والسلخ، واغتيال حريات المواطن وحقوقه، اختلّ مفهوم الوطن، فهناك واقعٌ مُعاش فرضَ على الناس الخضوعَ، وطأطأة الرأس، والنفاقَ والإنتهازية، في الوقت الذي لم يظهر فيه قادةٌ وطنيون، يساهمون في تعزيزِ الهويّة السورية، بعيداً عن الأوكارِ الطائفية المُعتمة، وفنون النّهب والقتل والذلّ والتجويع، وفي سورية، على الرغم من أنّ بعضا لم يغادر، إلا أنه يعيشُ منفاه في الداخل، وبعض آخر غادر ولم يقبل المنفى الذي قبله آخرون ولكنه لم يقبلهم. باتت هذه التركيبة النفسية كحبلِ مشنقةٍ يضغط على رقاب السوريين الذين يتخبطون في دوامة القهر والضياع، إذ لم تعدْ توجد بقعةٌ في سورية تصلح لأن تكون وطناً، وربما لم يعد ثمّة وجود لسورية المُشتهى التي توهّمنا أننا خُلقنا تحت سمائها، وما إنْ رُفع غطاؤها الوهميّ عنّا حتى وجدنا أنفسنا بلا انتماءٍ أو هوية. إذاً من نحن اليوم، وماذا سنكون عليه لاحقاً، ومن كنّا بالأصل؟ هذه ليستْ أسئلة شعرية ينبغي الإجابةُ عليها لأسبابٍ وجدانية، ولا أسئلة فلسفية ينبغي الإجابةُ عليها لأسبابٍ معرفية، بل هي أسئلة حياة أو موت، ومرآة حية لجوهرنا نكون أمامها أو لا نكون.

ولا بدّ للعاقلِ من السوريين أن يتساءل: ما هذا الوطن الذي تقاتلنا فيه لمجرّد أنّ الآخر خالفنا في الرأي؟ ما هذا الوطن الذي ما إنْ اختلفنا فيه مع الآخر حتى انسحبنا إلى أوكارنا المذهبية والعقائدية، نحن الذين عشنا عقوداً طويلة نتغنّى باللوحة الفسيفسائية السورية؟ ما هذا الوطن الذي ما إن التجأنا فيه إلى الكانتونات الطائفية، حتى خوّنا الآخر، وأبحنا قتله لمجرّد أنه رأى الحياةَ الكريمة من وجهة نظرٍ مختلفة؟ ما هذا الوطن الذي يتحوّل فيه الفاسدُ إلى وطنيّ، والوطنيُّ إلى خائن؟ ما هذا الوطن الذي يجعلنا نفرحُ عندما يغتصبه عدوّ واضح، لمجرّد أنه يتطاول على منظومةٍ معينة نكرهها؟ ما هذا الوطن الذي ينهارُ لمجرّد أنّ خلافاً شخصياً نشب بين أكبر عائلتين حاكمتين في البلد اختلفتا على مصالحهما المادية الشخصية، بحجة حماية أموال البلاد .. إلخ.

مرة أخرى، سيمرّ التاريخ، ولن نكون فيه سوى شهودٍ حياديين على انهياراتِ البلادِ المتكرّرة. وهذا طبيعي، بسبب الإدارة السياسية ذات العقلية الخالية من التفهم لواقع ِالتغيير التاريخي، والتي اتجهتْ نحو الكسبِ المادي، ضاربة بعرض الحائط مستقبل الدولة وكرامة المواطن الذي ضرب بدوره عرض الحائط بمبادئه وانتمائه وضميره، كي يضمن لقمة عيشه. وهكذا توقفَ التقدمُ بسبب سوءِ النظام الجامد، بعدما تسرّب الفساد إليه، وأصبح عقيدةً لا يُعاب عليها، إذاً السؤال الملحّ الذي علينا أن نطرحه وبجدّيّةٍ بالغة: من هم الأصحاب الفعليون لسورية اليوم، والتي تبدو أشبه بالمنفى، بعدما تمّ تشكيلها وفق العقلية الديكتاتورية البراغماتية؟ حيث تقسّمتْ البلاد طائفياً بتراكماتٍ تاريخية، فصار مفهوم الوطن مبنيّاً على فكرة اللا انتماء، ليتحوّل إلى منافٍ جماعية، تكشّفَ الغطاءُ عنها فعليّاً بعد عام 2011، فالشتات بدأ منذ عقودٍ طويلة، متمثلاً بانقسام المجتمع السوري، وهذا أسوأ ما قد يمرّ به شعبٌ: ديكتاتورية متجذّرة تليها حربٌ طويلةٌ فشتاتٌ قد لا ينتهي، ولا أحد يعرف ما يمكن أن يكون عليه “سورية الوطن” لاحقاً، وإلى ماذا ستؤولُ إليه الهويّةُ السوريّة التي لم تجدْ ما يجمعُ بين أبنائها، حتّى الهزيمة التي كانَ من الممكن أن تكونَ أكثر توحيداً من الانتصار.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى