في سورية اليوم أعدادٌ كبيرةٌ من الأيتام، نتيجة مقتل مئات آلاف السوريين خلال السنوات التسع الماضية، غير أنه لا وجود لإحصائياتٍ دقيقة مُحدّثة تحدّد أعدادهم وأماكن وجودهم، كون التعامل مع هذا الملف يجري بشكلٍ جزئيّ وفي كل منطقةٍ على حدة، وعن طريق منظّماتٍ تؤمّن للبعض منهم المأوى وأشكالاً من الرعاية التعليمية والمالية والنفسية. واقع هؤلاء الأيتام هو جزءٌ من مأساةٍ كبيرةٍ يتعرّض لها ملايين الأطفال السوريين، حيث حذّر آخر تقريرٍ للأمم المتحدة في هذا الخصوص، والذي يعود إلى عام 2017، من تعرض ما يعادل مليون يتيمٍ سوري للحرمان من التعليم، فضلاً عن الاتجار بهم وتجنيدهم.
وفي الإطار نفسه، تتحدث آخر التقارير الأممية الموثّقة عن نزوح قرابة 8 آلاف طفل من دون مرافقين إلى دول الجوار، وتتنوّع حالات الأطفال الموثّقة بين مجهول النسب وفاقدٍ لأحد الوالدين أو كليهما، وبين من يعيش في كنف أحد الأقرباء إما نتيجة وفاة الوالدين أو انفصالهما وتخليهما عن الطفل.
في مواجهة هذه المأساة، سعت منظماتٌ وجمعياتٌ خيرية وفرقٌ تطوعية إلى مساعدة الأطفال على مواجهة ظروف اليتم، لا سيما في دول اللجوء، حيث يكون العمل أكثر تعقيداً. ففي تركيا مثلاً، يغلب على دور الأيتام أن تكون تابعةً لجهاتٍ مختلفة تحت إشرافٍ حكومي للبلد المستضيف، وضمن هذا الشرط يصعب وجود دور أيتام تابعة لمنظمات سورية دون أخذ التصريحات المناسبة من الحكومة التركية، غير أنّ ذلك يستلزم إجراءاتٍ معقدة تجعل من مهمة تأسيس دار أيتام سورية تُعنى بالأيتام السوريين أمراً شاقاً. ولكنّ ذلك لم يمنع من وجود دور أيتام سورية، حيث تمكّنت الإعلامية السورية إيلاف ياسين، في العام 2014، من تأسيس دارٍ للأيتام في مدينة غازي عنتاب جنوب تركيا، حملت اسم «بيت كريم».
وفي محاولةٍ لتسليط الضوء على بيت كريم، ولفهم التحديات التي تواجهها الجمعيات والمنظمات السورية في تركيا في عملها الإنساني مع الأطفال الأيتام، التقت الجمهورية إيلاف ياسين، التي قالت عن الدار الذي أسسته إنّه: «يضم 45 طفلاً تعود أصولهم الاجتماعية لمناطق مختلفة من سوريا، وبين الأطفال مَن يشرف أقرباؤهم عليهم مع استمرار وجودهم في الدار». وتضيف ياسين: «يعكس تنوع هويات الأطفال والمناطق التي ينحدرون منها امتداد المأساة، التي طغت على الاختلاف ووحّدت المعاناة».
ينصبّ اهتمام بيت كريم على تقديم الرعاية والعناية للأطفال ضمن ظروفٍ يسعى العاملون في الدار على أن تكون إيجابية، كما تقول ياسين، حيث يتلقى الأطفال تعليمهم في المدارس التركية، وقد حصل خمسةٌ منهم على المرتبة الأولى في صفوفهم. بالإضافة إلى ذلك، هم يحصلون على دورات تقوية في اللغات الإنكليزية والتركية والعربية داخل الدار، ونتيجة غياب الوالدين وما قد يترك هذا الأمر من آثار نفسية على هؤلاء الأطفال، فهم يحصلون على الرعاية النفسية من قِبل منظمةٍ متخصصة تدعى «ميدكس».
متى كانت البداية مع بيت كريم؟
تقول إيلاف إنّ الذي دفعها للتفكير في إنشاء بيت كريم هو طفلٌ يُدعى «حمودة»، التقت به في الجنوب التركي أثناء عملها كمراسلة. اعتقد الطفل أنّها تعمل في مجال تقديم المساعدات، فطلب منها أن تعطيهم بطانياتٍ للمنزل الذي يعيش فيه مع والدته الأرملة. تشرح إيلاف ذلك بالقول: «شعرتُ أثناء تواصلي مع حمودة بمدى الاحتياج الذي يعيشه الأطفال ضمن ظروف اللجوء واليتم، وكما في رواية الأمير الصغير لأنطوان دو سانت إكزوبيري، جاء أميرٌ صغيرٌ ليحملني في رحلةٍ ضمن مجال العمل الإنساني، توازت مع عملي الصحفي».
وتتابع في حوارها مع الجمهورية مبينةً أنّ قضية الأيتام من القضايا المهمة التي يجري تناسيها في زحمة القضايا المرتبطة بالملف السوري، تقول: «بشكلٍ عام، وبما أنّ عملي يتركّز في تركيا، وجدتُ أن الحكومة التركية تركّز على العمل مع الأيتام ووضعهم في دور أيتام تركية مع غيرهم من الأطفال الأتراك، وهي المسؤولة عن تعليمهم بشكلٍ رئيسي. بالطبع يوجد عددٌ لا بأس به من المنظمات التي تعمل مع الأيتام وتؤمّن لهم السكن والرعاية والتعليم. غير أني وجدت من خلال التجربة العملية أن الأطفال المتروكين يتعرضون في معظمهم لظروفٍ سيئة؛ تشمل سوء المعاملة وعدم الحصول على التعليم، وقد تصل إلى التحرش الجنسي والعنف الجسدي من قبل من مقدمي الرعاية، والذين هم في غالبيتهم من ذوي قرباهم».
وتُعرّف مسؤولة الدار الأطفال المتروكين قائلةً: «هم بالغالب أطفال توفي أحد والديهم بسبب الحرب أو أسباب أخرى، وتزوج الآخر أو اضُطر أو قام بالتخلي عنهم لقريبٍ أخر من العائلة، أو هم نسبةٌ من الأطفال الأيتام الذين يقوم برعايتهم أحد القرباء».
تقدم إيلاف أمثلة عن الحالات التي عايشتها مع فريق العمل أثناء عملهم مع الأطفال المتروكين: «في حالات العنف ضد الأطفال، كان يجري استدعاؤنا لمساعدة أحد هؤلاء الأطفال بعد تدخل الجيران، والذين يلاحظون تعرض الطفل لعنفٍ متكرر من الخال أو العم أو زوجة القريب المُقدمين للرعاية، وعندما كنا نتوجه لنطالب بالطفل بغية منحه الرعاية التي يحتاجها، كنا نُواجه برفض المسؤول عن الطفل تسليمه لنا؛ إمّا خوفاً من المجتمع، الذي سيعيّره بالتخلي عن ابن أخيه أو حفيدته أو بحسب صلة القرابة، أو خوفاً من توقف المساعدة المالية التي يحصل عليها هذا الشخص نتيجة رعايته لليتيم، وتكون هذه المساعدة مقدمة بالعادة من الهلال الأحمر التركي، وموجّهةً للعائلة التي ترعى أطفالاً أيتاماً في غياب آبائهم وأمهاتهم».
ما سبق ذكره دفع مسؤولة بيت كريم للتركيز على أهمية رعاية الأطفال المتروكين، الذين يتعرض غالبيتهم للاستغلال الجنسي والعنف من قبل الأقرباء. وعلى أرض الواقع، تمكنت إيلاف من إنقاذ أطفالٍ من عمليات بيع، بعد عرضهم من قبل أقربائهم. وفي 2017 استطاعت إيلاف أن توقف بيع طفلةٍ عُرض على «جدّتها» بضعة آلاف الدولارات مقابل الحصول عليها.
ومن بين الأطفال الموجودين في الدار طفلٌ تعرّض للتجنيد مع المقاتلين في الشمال السوري، جرى إنقاذه ورعايته في الدار. كذلك، هنالك طفلتان ممن أُجبروا على العمل في مناطق داعش لإعالة أنفسهم في ظروف سيئة، إلى أن جرى إنقاذهنّ ونقلهنّ إلى بيت كريم. وبالرغم من هذه الظروف الصعبة التي عاشها الأطفال، ترى إيلاف، من خلال متابعتها لواقعهم الجديد، قدرتهم الكبيرة على التعافي، وهي تركّز في هذا الإطار على تعزيز مرونة الأطفال النفسية، بما يساعدهم على تجاوز الآلام التي عايشوها من خلال توفير الدعم النفسي المناسب.
أيتامٌ بالغون: أنتم مطرودون!
من الحالات المؤسفة التي يجب تسليط الضوء عليها في ما يخص دور الأيتام، هي موضوعة سن البلوغ والتخلي عن الأطفال الذكور. تقول إيلاف: «بسبب الضغط على دور الأيتام يُصار إلى طرد الذكور عند وصولهم إلى سن البلوغ، أي في عمر الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، وذلك خوفاً على النساء والأطفال منهم. وهم بذلك يكونوا قد أخرجوا قبل وصولهم إلى سنّ الرشد الذي يسمح لهم بالبحث عن عمل أو متابعة دراستهم بشكل مستقل. بنتيجة ذلك، يصبح هؤلاء الأطفال عُرضةً للتجنيد وعمالة الأطفال والأذى الجنسي، إضافةً إلى حرمانهم من حق التعليم».
وعند سؤالها عن التبني، بينت إيلاف أنّ «النص الديني يشجع على الكفالة والرعاية التي تحافظ على النسب»، لكنها ترى أنّ المجتمع «لا يمتلك ثقافة التبني». تتابع إيلاف: «في حالة المجتمع التركي مثلاً، يسمح القانون التركي بالتبني، لكنّ المجتمع لا يُقدم على ذلك بشكلٍ عام؛ أي أنّ الاشكالية مجتمعية وليست مرتبطةً بالضرورة بالنص الديني».
وبالرغم من عمل المنظمات والجمعيات الخيرية لدعم الأطفال اللاجئين الموجودين في تركيا، سواء الأيتام أو الذي قدِموا مع أحد الوالدين، يبقى هناك احتياج للمزيد من منظمات العمل المدني الهادفة لتلبية احتياجات الأطفال. وبحسب ما صرح به للجمهورية «عمار عنتر»، المسؤول عن ملف الأيتام في فريق ملهم التطوعي، فإنه مع تضافر الجهود لمساعدة الأيتام في مخيمات اللجوء أو خارجها «تستمرّ الحاجة لمزيد من العمل، بسبب ارتفاع أعداد الأطفال الأيتام والمتروكين». تجدر الإشارة هنا إلى أنّ فريق ملهم يدير داراً للأيتام في إعزاز وأخرى في البقاع، وهي دورٌ يتم تمويلها من التبرعات، كما يساهم الفريق بمدّ الأيتام بكفالات مالية في حال وجودهم مع أحد الوالدين أو أقرباء من العائلة.
ويرى عنتر أنّ «نظام الكفالة يساهم بالتخفيف من عمالة الأطفال، حيث يشترط الفريق إتمام الطفل لدراسته وعدم عمله في الفترة الدراسية. كما يشجع الفريق الأطفال على تعلّم المهن، لكن دون أن يتعارض ذلك مع دراستهم، حيث يجب أن يقتصر عملهم على أوقات العطلة الصيفية».
في ظلّ غياب الرقابة على الكفلاء ومزوّدي الرعاية للأطفال، تتفشّى ظواهر اجتماعية سلبية يقع ضحيتها الأطفال الذين يعجزون عن الدفاع عن أنفسهم، وهنا يتبدّى الاحتياج إلى وجود منظماتٍ مختصّة بتقديم الدعم النفسي للأطفال الذين تعرضوا لعنف وأذى جنسي وجسدي أو نفسي. ويبقى من الأهمية بمكان إبراز دور المبادرات الإيجابية للمنظمات السورية التي تعمل في ظروف مادية وشروط إنسانية قاسية. وفي ذات الوقت، مع تراجع الدعم لهذه المنظمات بسبب تجاهل الإعلام للملف الانساني السوري، يصبح من الضروري العمل لإيصال صوت المحتاجين للدعم، وكذلك صوت المنظمات العاملة معهم ومن أجلهم.
المصدر: الجمهورية. نت