يبدو الصراع بين تركيا واليونان قابلاً للتحول إلى حربٍ، وكذلك التراجع إلى السلم. لدى الدولتين طموح إقليمي كبير؛ فتركيا تسعى إلى تغيير معادلات إقليمية سابقة، ومجحفة بحقها، بينما تحاول اليونان تثبيت القديمة منها. تتجذّر المشكلة هذه بتشكل محاور إقليمية خلف مواقف اليونان، بينما تجد تركيا نفسها شبه وحيدة، فتصارع لتشكيل محور داعم لها، وتتبنّى سياسات “هجومية” بما لا يتناقض مع السياسات الأميركية والروسية، وكذلك تحاول الاستفادة من السياسة الأميركية الرافضة اشتعال الحرب بين الدولتين، ورغبة الروس في الدخول على خط هذه الأزمة، من ناحية رفضهم الموقف الأميركي بعامة، وخلخلة حلف شمال الأطلسي، وتعميق الخلاف بين الدول الأوروبية، حيث تركيا موجودة في مؤسسات أوروبية متعدّدة. أيضاً، تقدّم روسيا نفسها وكأنّها جهة دولية وازنة وعادلة وقادرة على التأثير على كلٍ من اليونان من جهة، ولها علاقات تاريخية معها، وتركيا من جهة أخرى، وإيقاف التوتر الشديد بين الدولتين أخيراً. ولكن ما هي قضية الخلاف، وكيف تتفاعل، وأية آفاق ممكنة لها؟
أسباب الصراع
تصاعد التوتر، أخيراً، بعد أن عقدت كل من تركيا وليبيا اتفاقيتين، تخصان التعاون البحري والعسكري في 2019؛ وتتيح الاتفاقية البحرية لتركيا توسعة حدودها البحرية والتنقيب في ليبيا، وهذا دفع تركيا إلى “التعدّي” وتجاوز جزر يونانية كثيرة، وأكبرها كريت، وسواها.
يزيد الصراعَ تعقيداً أن تركيا لا تعترف بجمهورية قبرص، المُعترف بها عالمياً، وضمّت إليها جزءاً من قبرص “الشمالية” في 1974، عبر تدخلٍ عسكري، وتعتبر قبرص بأكملها جزيرة متنازعاً عليها، وليس لها حقوق بحرية خاصة بها، باعتبارها ليست يابسة، وليست لها حدود برية مع دول أخرى، وبالتالي تَعتبر بحر قبرص منطقة تركية بامتياز. تركيا أيضاً لا تعترف بقانون البحار 1982، وبالتالي تريد من ذلك كله توسعة حدودها البحرية ومنطقتها الاقتصادية بأكثر من 44% عما هو حالياً، وضمن المياه الإقليمية لقبرص، وباعتبار قبرص التركية تابعة لها! لا سيما مع اكتشاف كميات كبيرة من الغاز، وحاجتها الملحة إليه، وهي تستورد أكثر من 90% منه من الخارج، بينما تقول الاكتشافات بوجوده على شواطئها!
يضاف إلى ذلك كله رفض تركيا نتائج اتفاقية لوزان عام 1923، والتي ظَلمت تركيا، وأجبرت على التوقيع عليها، حيث كانت من الدول الخاسرة في الحرب، وبالتالي تمّ تقيّدها قضايا كثيرة، منها “سرقة” حقوقها البحرية! ومن هنا نفهم السبب الذي يجعل الرئيس التركي، أردوغان، يردّد أنّه سيمزّق الاتفاقيات الدولية. وبغض النظر عن اللهجة الحادّة هذه، فإن ظلماً تاريخياً ألحق بتركيا، كما أن حاجتها إلى المواد الهيدروكربونية كبيرة.
تلت توقيع الاتفاقية بين تركيا وليبيا تطوراتٌ إقليمية، حيث وقعت اليونان اتفاقية مع مصر لترسيم الحدود البحرية، وأُنشئَ في القاهرة “منتدى غاز شرق المتوسط” بمبادرة منها، واستثنيت منه تركيا، وهناك اقتراحات لإنشاء خط غاز يبدأ بإسرائيل وينتهي باليونان، ومن ثم إلى أوروبا، وتشترك فيها، إضافة إلى الدول المذكورة، كل من مصر وقبرص، وهو يفتح ممرّاً جديداً لتصدير الغاز بعيداً عن تركيا. قطع الاتفاق التركي الليبي بالضرورة هذا الممر، وبالتالي لا بد من اتفاقية جديدة، تكون تركيا شريكةً في أي اتفاق لنقل الغاز، ولها دور في كل ما يخص دول شرق المتوسط، وأية سياسات إقليمية ودولية، تبحث في مصير ثروات هذا الشرق وكيفية استثمارها. وتستفيد تركيا مما لم تعترف به من قبل، وكذلك من عدم ترسيم الحدود البحرية للدول التي تتقاسم شرق المتوسط. وبالتالي، تحاول جاهدة ألا تُستثنى منه، ولكن ذلك يترافق مع حلف إقليمي، لم يعد يقتصر على اليونان ومصر وقبرص، وصار يضم أخيراً فرنسا والإمارات. وهناك تحذيرات أوروبية شديدة، ورافضة خطوات تركيا، وإرسالها إلى سفن التنقيب محمية بالطائرات العسكرية في المنطقة الاقتصادية الخاصة بقبرص.
الاستبعاد التركي
الاستبعاد التركي من أية مخططات لشرق المتوسط متعلق بخلافات تاريخية مع اليونان، ويتجاوز اتفاقية لوزان والتدخل في قبرص عام 1974، ومع مصر تعمق بعد 2013، والانقلاب على الرئيس محمد مرسي، ومع إسرائيل، بعد حادثة سفينة مرمرة خصوصاً. ومع إسرائيل، لم تنقطع العلاقات نهائياً، ويمكن أن تستعاد بأشكال متعدّدة، ولكنها الآن في أسوأ حالاتها، وحتى إن استعيدت، فإن الواقع تعقّد بعد اتفاقية التطبيع بين الإمارات وإسرائيل، حيث ستبدو وكأنها تنضم إلى هذا الحلف، وضد القضية الفلسطينية. أيضاً، لا تزال تركيا تقيم صلاتٍ مع إسرائيل، ومنها يصل نفط كردستان العراق إليها. ما يعقد العلاقة بين تركيا وإسرائيل أن الدول الفاعلة في الإقليم حالياً هي تركيا وإسرائيل وإيران، وهناك تقاربات شديدة بين إسرائيل ودول عربية رافضة للسياسات التركية، وقريبة من روسيا، وعدا ذلك؛ تتعرّض تركيا إلى انتقاداتٍ كثيرة من الأميركيين. وقد أَقر الكونغرس الأميركي في 2019 قانون “الشراكة في الأمن والطاقة لمنطقة شرق البحر المتوسط”، بهدف تعزيز التعاون بين كل من إسرائيل واليونان وقبرص! وبالتالي، هناك إشكالات تخص كلاً من إسرائيل وتركيا، وتحدّد العلاقة بينهما، وتمنع تقاربات أكبر من السابق. وبالتالي، تتقارب إسرائيل مع كل من قبرص واليونان ومصر والإمارات وفرنسا وغيرها.
ظهر فاعل جديد في المنطقة، ويتمثل في تحرّكات الرئيس الفرنسي، ماكرون، والذي زار لبنان والعراق، قبل أيام، وتفيد تصريحاته برفضه السياسات التركية، وانضمامه إلى حلف “مصر اليونان”، وهو لا يمثل فقط فرنسا، بل ودولاً أوروبية كثيرة، والتيارات المحافظة فيها، والرافضة أية أشكال مع العلاقات الدبلوماسية مع تركيا. في الأزمة الحالية، تصطف فرنسا إلى جانب اليونان، وربما لتدخلها في لبنان جانب يتعلق بتطوّر النزاع في شرق المتوسط، والسيطرة على ثروات هذا البلد وسواه، وكذلك بليبيا. تشذُّ من بين الدول الأوربية المساندة لليونان ألمانيا، حيث تعدّ الدولة الحيادية شبه الوحيدة أوروبيّاً في النزاع وتخفيف حدّته، ومنع وصوله إلى صراع مسلح، ستكون نتائجه كارثية، وتتفق سياستها هذه مع الولايات المتحدة الأميركية. تغيير تركيا المعادلات في شرق المتوسط، عبر العلاقة مع ليبيا والتنقيب في المناطق البحرية لقبرص، دفع أميركا ذاتها إلى رفع الحظر عن توريد السلاح إلى قبرص، المعمول به منذ أواخر الثمانينيات، وهذا أمر جديد في العلاقة بين الدولتين، وقد يُفسر على أنه رفض لخطوات تركيا وتأييد لحقوق قبرص.
يؤزّم وجود تركيا في ليبيا وفي مياه قبرص العلاقات مع مصر واليونان، وإذا أضفنا العلاقات المميزة لتركيا مع حكومة ليبيا الإسلامية، يصبح التصعيد اللهجة المسيطرة بين الحلفين، وهذا ما نسمعه يومياً من الدبلوماسية اليونانية والتركية معاً. وأخيراً، يقود الرئيس الفرنسي حملة مركزة ضد تركيا، ولحشد أوروبا إلى جانب اليونان، وكأنّ الحرب واقعة لا محالة! وطبعاً كما دخلت سورية وليبيا واليمن في أزمات معقدة للغاية، فإن أميركا وروسيا وفرنسا، يمكن أن يساهموا في تعقيد العلاقات الإقليمية لتركيا ومع اليونان ومصر، وهي دولٌ غارقة في أزمات اقتصادية كبيرة، وبخصوص تركيا، فهي تتبنى سياسات “هجومية” في العراق وليبيا وسورية، وتمدُّ نفوذها إلى دولٍ كثيرة في الإقليم، وهذا يعني أنها توسع نطاق “معاركها” الإقليمية! مع ذلك، وبسبب خطورة أية حرب بين اليونان وتركيا، ليس من مصلحة الدول الكبرى، لا سيما أميركا وألمانيا، أن يتطور النزاع إلى حربٍ، ولكن لا يمكن رفض هذا الاحتمال أيضاً.
الحلف المضاد
يرى الحلف المضاد لتركيا أنها تخرق الاتفاقيات الدولية، وتتعدّى على جزر يونانية، وتهدّد أمن مصر، وطامحة إلى لعب دورٍ إقليميٍّ، وربما أكبر من ذلك؛ تركيا إذاً، أمام تعقيد كبير، فكيف ستتمكّن من تغيير الاتفاقيات والسيطرة على جزر يونانية، والحفاظ على الاتفاق المهدّد بالفشل مع ليبيا مع أي حل سياسي، حيث من المحتمل أن يتضمن ذلك. قد تكون تركيا في ورطةٍ حقيقيّةٍ، وقد تضطر للحرب، كما فعلت في 1974 وسيطرت على 37% من شمال قبرص، والأخيرة دويلة لا أحد من دول العالم يعترف بها إلا تركيا. ربما، والمنطقة تزداد تأزّماً، أن تخفض تركيا من سقف طموحاتها، وتكتفي ببعض منها، ومحاولة الحفاظ على علاقات جيدة مع ليبيا، والسيطرة على جزء من ثروات بحر إيجة، وبما لا يغيّر من الاتفاقيات الدولية السابقة، وبالتالي تُبرّدْ الأجواء العاصفة في شرق المتوسط، وتستفيد من ثرواته، ولكن ذلك سيقف ضده رفض مصر أية علاقات مع تركيا، وكذلك اليونان وقبرص وفرنسا بشكل خاص، وهناك القرارات الدولية التي تعترف بقبرص جمهورية مستقلة! إذاً القضية معقدة للغاية، وما تفرضه تركيا من وقائع جديدة، قد تخسرها من جديد.
هناك من يرجّح أن النزاع لن يتطوّر إلى حربٍ أو سيراوح في إطار التهديدات المتبادلة، قبل الانتهاء من الانتخابات الأميركية، وهذا يتطلب ستة أشهر على أقل تقدير. ربما هذا صحيح، حيث أوضاع كل دول شرق المتوسط متأزمة، وبعضها يتعرّض للتفكك الشديد، وبعضها يتدخل في أكثر من دولة، ويفشل في الانتصار، وحتى تركيا، كما أوضحنا أعلاه، تتدخل في أكثر من ساحة، ومثلها الإمارات. أما اليونان فأزماتها الاقتصادية والاجتماعية كبيرة. وبخصوص مصر فهي غارقة في أزمات متعددة المستويات، وتتجنب التصعيد في الساحة الليبية، وتبحث عن حلٍ يجنبها الصدام مع تركيا. وبالتالي التصعيد، وخصوصاً حديث أردوغان عن وطنٍ أزرق، أي يشمل مساحات واسعة من مياه المتوسط، وهي مملوكة لقبرص، سيظل في إطار التصعيد الكلامي. الإشكالية الكبرى ليست الانتخابات الأميركية، بل حالة الشرق الأوسط المتأزمة، وفي القلب منها تلاشي أي دور عربي فاعل، وسيطرة كل من تركيا وإيران وإسرائيل عليه. وهناك التدخل الروسي، وأخيراً، تصاعد الدور الفرنسي. تريد تركيا شطب اتفاقية لوزان 1923، وفرض نفسها قوة فوق إقليمية، فهل تستفيد من غياب الدور الأميركي ستة أشهر؟ لا أعتقد، فهناك حلف إقليمي وعالمي واسع ضد سياساتها، وأغلبية الدول الأوروبية تقف خلف اليونان وقبرص، وضد سياسات أردوغان.
الحق بثروات شرق المتوسط:
نطرح الموضوع من زاوية أخرى: لماذا لا تكون ثروات منطقة شرق المتوسط لجميع شعوب ذلك الشرق؟ ولماذا تحتكر بعض الدول الثروات التي تحت أراضيها، وفي مياهها الإقليمية مثلاً. أليست مشكلة تركيا هي تكرار مشكلات دول أخرى. هناك ما يشبه المسلّمة بأن حروب المستقبل ستكون حروب الطاقة والمياه. وبالتالي، كيف ستتم السيطرة على ثروات كوكب الأرض بشكل عادل ومنصف لشعوب هذا الكوكب. تفترض هذه القضية تغييراً كبيراً في القوانين الدولية، ولكنها ليست مستحيلة، سيما أن ثروات الأرض ليست مملوكة لأشخاص محدّدين، بل هي ملكية عامة للدول. وبالتالي يجب طرحها بعيداً عن سيطرة هذه الدولة أو تلك، وتحويلها إلى ملكية مشتركة لسكان الكوكب بأكمله.
تفكيك الشرق الأوسط، وقبله تفكّك الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا، وحدوث مجازر مروعة هنا وهناك، يمكن أن تعود أسبابه إلى الصراع على الثروات والنفوذ، والآن تدخل تركيا في أزمةٍ معقدة مع اليونان، ولكن القضية تجاوزت الدولتين إلى تشكيل تحالفات سياسية واستراتيجية متصارعة. سترفض الدول المتضرّرة من التقسيم غير العادل أية اتفاقيات مجحفة بحقها، وستفرض الدول القوية شروطها على العالم، وتستغله؛ وهناك تاريخ كامل من الكولونيالية، وهدفه السيطرة على الدول، وتتبيعها، وتحويلها إلى سوقٍ من ناحية، وأرض وشعوب للاستغلال من ناحية أخرى.
مشكلة العصر حالياً أن الصراعات تتطوّر بين دولٍ مأزومة، وهذا يفضي إلى إمكانية وقوع الحروب بدرجة كبيرة. هدفت الثورات العربية إلى التغيير الكامل، حيث كانت الاختلالات متعدّدة الأبعاد، ولم تكن القضية فقط الانتقال إلى الديموقراطية؛ المشكلة أن هذه الثورات لم تنتصر وتتطور بما يؤدي إلى توزيع الثروات بشكل عادل. تشعر الدول الصاعدة بالغبن، ومثالها هنا تركيا، فهي “تقاتل” حالياً من أجل تغيير الاتفاقيات، وكذلك تشعر الشعوب، ومثالنا هنا العرب والأكراد بصفة خاصة. هناك موضوع آخر، فقد اتهمت الحركات القومية العربية بأنها تستهدف إسقاط الدول الخليجية في الستينيات، وها هي الدول الخليجية تُتهم بالتدخل في كل الدول العربية. كان الأمر في المرحلتين خاطئاً، إذ إن التقارب والوحدة يجب ألا يكونا بالطرق العسكرية أو التدخلية الفظّة، بل عبر الطرق السلمية والديموقراطية.
ولكن ما القضية المركزية في ذلك كله؟ القضية هي الثروات الباطنية بالتحديد، أي التي لا تحتاج إلى جهدٍ بشريٍّ كبير، كما الزراعة أو الصناعة مثلاً. وبالتالي تدور الصراعات العالمية والإقليمية حول ذلك، ومن أجل ذلك يتم تغيير كل المعادلات الإقليمية، وتحاول تركيا، كما إيران كما إسرائيل ودول الخليج، السيطرة على بقية الدول العربية، كما يحدث في ليبيا واليمن وسورية والعراق ولبنان. هل ابتعدنا عن الموضوع؟ أبداً، فالقضية هي حقوق الدول والشعوب المهدورة، والشعور بالغبن، وضرورة رفعه، لتتمكّن الدول والشعوب من إدارة شؤونها، وحل أزماتها وتأمين احتياجاتها.
تواجَه تركيا الآن بحلفٍ كبير، وشرس، ويضمر عداواتٍ تتجاوز موضوع الطاقة والغاز والنفط. مثالنا هنا فرنسا أولاً والإمارات ثانياً، وهناك مصر التي تستهدف تركيا انطلاقاً من صراعاتٍ تخصّ الإسلاميين، وعكس ذلك فتركيا ترفض نظام ما قبل محمد مرسي، وهناك اليونان والمشكلات المستعصية معها، وهناك إسرائيل التي تستغل الأزمات وتراقب الفرص. ليس المناخ الذي تتحرّك فيه تركيا سهلاً، وهي لا تُواجِه دولةً بعينها، وبالتالي يجب البحث عن طريقةٍ لتغيير السياسات الإقليمية بغير سبل الحرب، أو دعم أطراف في النزاع، كما تفعل مع الوفاق الليبية، أو كما تفعل الإمارات مع اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، وكذلك مصر أو فرنسا مع اليونان وقبرص.
طرق التغيير
نحن أمام عدّة طرق للتغيير في المنطقة؛ وتناقش السطور التالية اثنتين مترابطتين: التغيير عبر الحروب، ولنتأمل حال كل من أفغانستان والعراق! وقبلها تجرى جولات من التصعيد، وهناك التغيير عبر الطرق الدبلوماسية والتوافقات الرضائية. والمشكلة هنا أن الحقوق المكتسبة لليونان، مثلاً، لا يمكن التخلي عنها بسلاسة، وهو حال كل الدول الرأسمالية وأنظمة القهر التي تستغل ثروات بلادها وشعوبها. على الرغم من ذلك نقول: هل من طريق آخر تتغير فيه السياسات من الدفاع عن المصالح والنفوذ العالمي إلى الدفاع عن حقوق الإنسان والتفكير بالعدالة وإنصاف المفقرين والمستغَلين. وهنا نفتح قوساً لنقول: لن يتغير العالم ما بعد فيروس كورونا إلى وجهة أخرى عما كان قبله، والتغيير مرتبط بثورات اجتماعية واعية أهدافها، وهذا غير مطروح عالمياً. ويظلّ السؤال: هل هذا ممكن من أصله، أم هي أحلام طوباوية؟
نتائج التغيير عبر الحروب كارثية، وربما يفرض معادلات جديدة، كما الحال مع تدمير كل من ليبيا وسورية واليمن والعراق، وإحداث تغيرات ديموغرافية هنا وهناك، وقتل آلاف البشر، واحتلالات مباشرة وتدمير للبنى التحتية وللتراث التاريخي “العمارة”. تستفيد من الحروب الدول المستقرة، والمافيات الحاكمة، ولكنها تسبّب الكوارث وكُلفها.
هناك تخوّف شديد من أن تحدث الحرب، لا سيما أن هناك حلفاً شرساً، يستهدف تركيا، والأسوأ أنه يُشرّعن دولة استعمارية، أي إسرائيل، وأصبح لها حقوق اقتصادية بالبحر، وتُصدّر ثروة الفلسطينيين إلى الخارج، وكأنّها دولة طبيعية. إذاً، يقوم الحلف المضاد لتركيا على حقوق تاريخية، كما اليونان وقبرص، ويقوم على حقوق استعمارية كما إسرائيل، وعلى دول رفضت الثورات العربية ودعمت الأنظمة المضادة لسحق الشعوب، والمثال هنا الإمارات، وهناك فرنسا الساعية إلى لعب دور في شرق المتوسط. ليست تركيا بعيدة عن ذلك كله، فنظامها أيضاً تدخل في كل من العراق سورية وليبيا والآن لبنان، وهناك فئات واسعة ترفض ذلك، وهي تتدخل داعمة الإسلاميين بصفة خاصة تارة أو التركمان تارة أخرى، ونظامها الديموقراطي يتهمش أكثر فأكثر، وبالتالي، لا تنطلق تركيا من أهداف عامة للدول التي تتدخل فيها، كالديموقراطية والعدالة الاجتماعية وإنصاف الفئات المظلومة كما تريد الشعوب، بل تتدخل كما كل الدول التي تستفيد من تأزم الدول العربية والأفريقية، وبهدف ضمان مصالحها الاقتصادية ومد نفوذها الجيوسياسي.
ويشكل الصراع حول الطاقة والثروات الباطنية خلفية المشهد الكارثي لمنطقتنا العربية، وهو ذاته الذي جاء بروسيا إلى سورية وشرق المتوسط، وهو ذاته الذي دفع ماكرون إلى انتهاج سياسة معادية وهجومية ضد تركيا، وتبنّي سياسة شرق أوسطية، وكممثل عن أوروبا؛ فهل تنجح الولايات المتحدة الأميركية أو روسيا في ضبط الصراعات الشرق أوسطية، وهي التي أشرفت على تدمير كل من العراق وأفغانستان وليبيا واليمن وسورية؟ أشك، ولكن أستبعد الحرب لاعتباراتٍ كثيرة بين الحلفين.
ما يغير معادلات الشرق الأوسط وشرق المتوسط تجدّد الثورات العربية وثورات شعوب المنطقة كذلك، وهو ما بُدئ فيه عام 2010، وتجدّد أكثر من مرة. الآن أيضاً، تتعلق الآمال بتغيير كبيرٍ في السياسات العالمية الاقتصادية والسياسية، ونحو العدالة الاجتماعية والديموقراطية وإنصاف الدول والشعوب المستغَلة؛ تركيا واليونان وقبرص ومصر وإسرائيل لا تفكر في ذلك، وأيضاً الدول لضامنة للاستقرار العالمي. فهل تتجدد الثورات وتصبح اجتماعية وتوحد شعوب شرق المتوسط؟ الأحلام تتعلق بها، وبها يتم التغيير الحقيقي.
المصدر: العربي الجديد