يشكل مصطلح “حق تقرير المصير” أحد أهم الركائز في الخطاب القومي الكردي، وبالنسبة للقوميين الكرد، فإن نضالهم القومي هو أمر حاسم لإشباع رغبتهم في الاعتراف، ويأتي هذا متزامناً مع تكرار مصطلح “الديمقراطية”، فهم يعتبرون أن الاعتراف “بحكم ذاتي” لهم كمقدمة لتحقيق دولتهم الكبرى، هو جزء لا ينفصل عن تطبيق “قيم الديمقراطية” وفق الشكل الذي يبشر النظام الديمقراطي الليبرالي الغربي بنشر قيمه وقيم حقوق الإنسان في دول العالم الثالث الشرقي!، وهذا السبيل وحده سيحقق لهم الاعتراف، ووحده الحكم الذاتي، يوفر أنسب الظروف لاحتياجات هذه الجماعات القومية التي ترى بأنه من حقها أن يكون لها كيانها القومي الخاص. وفي هذا السياق، يظهر “تقرير المصير” على أنه طريق ليبرالي وديمقراطي وتقدمي إلى الدولة المتخيّلة. لذلك تبرر جميع المجموعات القومية تقريبًا، بما في ذلك القوميون الأكراد، تطلعها إلى تشكيل “دولة” أو الحصول بالحد الأدنى على ” إدارة/ حكم ذاتي” من خلال الإشارة إلى “تقرير المصير” بوصفه تطبيقاً لقيم الديمقراطية والعدالة.
ومع ذلك، علينا أن ندرك بأن هناك جملة من التحديات الموضوعية لهذا الخطاب، فالنضال وحده من أجل هذه “الديمقراطية” المرتبط مباشرة بادعاء حماية هوية معينة -من المنظور الغربي- لا يكفي، بل يستلزم أيضًا استبعاد الهويات الأخرى من المنطقة المخطط لها في المستقبل، لأن مهمة “إعادة تعريف الذات” للجماعات الأثنية، تتضمن الانفصال وإنشاء وحدات سياسية أصغر، دون وجود تحديات ديموغرافية وهوياتية كتلك التي يواجهها الأكراد في سورية على سبيل المثال.
يعتقد كل من سميث جوهر وفالي، بأنّ مفهوم “تقرير المصير” في خطاب الجماعات والأقليات الأثنية ضمن الدولة، يشير إلى تفسير “عرقي وبدائي ودائم للأمة”، يخلو من أي تفسير حديث ومدني لدولة المواطنة العصرية. بمعنى أنّ تحقيق طموح “حق تقرير المصير” وفق المفهوم الذي تطرحه تلك الجماعات، يستلزم انتزاع الاعتراف الدولي بهوية متميزة عن محيطها، ذات منطقة محددة ومترابطة، واستبعاد الهويات الأخرى من أي مطالبات محتملة بتلك الأرض كوطن. أي إيجاد أرض بلا شعب، لشعب يحقق صفات الأمة لكنه بدون أرض. وهذا تماماً جوهر الدعاية الصهيونية التي تم الاعتماد عليها لتسويق حق إسرائيل بإقامة كيان لها على أرض فلسطين كأرض بدون شعب وتنتظر قدوم شعبها من الشتات.
لذلك تسعى الجماعات المؤمنة بالانفصال عن الخارطة السياسية للدولة التي تعيش ضمنها، والتي تدعي حقها في إقامة دولة من خلال “تقرير المصير”، على إقناع الآخرين بأن المنطقة التي تطالب بها تشكل إقليم “عرقي” خاص بها وحدها، أو على الأقل تشكل فيه أغلبية سكانية متجانسة ومتجذرة، ليكون هذا الإقليم مساحة و “أرض تاريخية” يربطون بها هويتهم وأمانيهم، ويسعون إلى السيطرة الكاملة عليها متى ما سنحت الفرصة، وتحت مختلف الذرائع والحجج.
بهذا المعنى، تصبح الديمقراطية “الليبرالية” والافتراضات القومية “البدائية / العرقية” بلغة سميث وفالي، لا غنى عنها. لذلك، يظهر في مطالبات الجماعات الفرعية لتقرير المصير، ارتباط وثيق بين “الديمقراطية الليبرالية” و “القومية العرقية”. يتجلى هذا الارتباط في التعريفات القانونية للحق في “تقرير المصير القومي” – دون النظر لظروف ظهور هذا المبدأ من وجهة النظر التاريخية، وفي معايير “الحقوق الديمقراطية وحقوق الإنسان”، وكذلك في استخدام الجماعات “دون القومية” أو “الأقلية” أو “العرقية” نفسها لمفهوم “تقرير المصير” هذا لأغراضها السياسية. ومن ثم، تبقى التفسيرات البدائية والعرقية للهوية متجذرة بعمق في مطالبات “تقرير المصير” لتلك الجماعات.
لذلك يمكن لنا أن نفهم، لماذا تركز الجماعات الأثنية الفرعية، على فكرة إنشاء خرائط “الأقاليم العرقية” في وعي جمهورها، وتزيد من الإشارات إلى مصطلحات عرقية، محاولة من خلالها خلق هويتها القومية وربطها بتلك الخرائط التي تشير إلى الأراضي التي تطالب بها. تخدم مثل هذه التصورات والادعاءات تلك الجماعات كمبرر فكري أو إيديولوجي تختبيء خلفه لكل ما يمكن أن ينتج عن ذلك من نتائج، بما في ذلك إشعال الصراع الأهلي.