أن يقول بشار الأسد، خلال استقباله الوفد الروسي برئاسة يوري بوريسوف نائب رئيس الوزراء، إن الفريقين، الروسي والحكومي السوري نجحا في تحقيق حل مقبول للطرفين، في قضايا عديدة، فهذا يعني أن ثمّة تنازلات كبيرة، قدّمها النظام لروسيا في الشق الاقتصادي، لا السياسي. والبعد الاقتصادي هو الذي هيمن على اللقاءات، مهما حاولت زيارة وزير الخارجية الروسي، لافروف، إضفاء أبعاد سياسية عليها، فالتصريحات الروسية، أخيرا، تعكس الاهتمام الاستراتيجي الروسي بضرورة التحرّك لإعادة إحياء الاقتصاد السوري، وفق آليات عمل جديدة، حرص الطرفان على جعلها طي الكتمان.
وبخلاف محاولات النظام السوري خلال السنوات الماضية في ربط المستويين، العسكري والسياسي، فإن النجاحات العسكرية يجب أن تستثمر سياسيا، رفض النظام السوري ربط المستوى الاقتصادي بالمستوى السياسي، وفق تصريح وزير الخارجية، وليد المعلم علنا، فيما يبدو رسالة إلى موسكو، تلقفها لافروف بروية وهدوء، حين أكد على رواية المعلم بعدم وجود رابط بين الملفين، ما ينبئ بأن الجدار السياسي الذي يضعه النظام في وجه تقديم أية تنازلات سياسية جدّية ما يزال صلبا أمام الروس.
غير أن الرسالة السورية الأهم كانت في مطار دمشق، حين أرسل النظام معاون وزير الخارجية، أيمن سوسان، لا وليد المعلم، لاستقبال رأس الدبلوماسية الروسية، ما دفع لافروف إلى السلام على السفير الروسي وسوسان، من دون أن يسلم على باقي الوفد السوري، في خرقٍ واضح للبروتوكول الرسمي الذي يقوم بموجبه المسؤول الضيف بالسلام على مسؤولي الدولة المضيفة، قبل السلام على سفير بلاده.
وافق لافروف على كلام المعلم إنه لا مهلة محددة للجنة الدستورية، وأيضا في عدم ربط الملفين، الاقتصادي والسياسي، مع بعضهما، وفي أن انتخابات الرئاسة المقبلة شأن سوري داخلي، وأن إجراء هذه الانتخابات ليس مرتبطا بنشاط اللجنة الدستورية. لماذا جاء لافروف إذا إلى دمشق؟ واضح أنها زيارة دعم، مع ما فيها من رسائل سياسية إلى الولايات المتحدة، مفادها بأن روسيا حدّدت خياراتها بالمضي في استمرار دعمها النظام السوري اقتصاديا، ومنعه من الانهيار، والحيلولة دون فرض شروط سياسية تهدّد كينونته.
وإذا كان المسؤولون الروس، بحكم مواقعهم، لا يستطيعون قول ذلك مباشرة لأغراض الدبلوماسية، فإن وسائل إعلام روسية عبرت عن ذلك مباشرة، مثل صحيفة “كوميرسانت” التي قالت إن موسكو اتخذت قرارها بفتح صفحة جديدة في علاقاتها مع النظام السوري، والاقتصاد في مقدمتها.
ولم يكن تصريح المعلم عبثيا، إن الوضع الاقتصادي العام سوف يجد تحسّنا خلال الأيام والأشهر المقبلة، غير أن ذلك لا يعني أن لافروف عاد خالي الوفاض سياسيا، فقد حصل على تنازلين مهمين بالنسبة لموسكو: موافقة النظام على المطلب الروسي تثبيت الوضع في إدلب، والاهتمام بالوضع الداخلي خلال المرحلة المقبلة. حصول تنازل ما فيما يتعلق بالعلاقة بين النظام و”الإدارة الذاتية” الكردية. صحيحٌ أن كلام المعلم إن أي اتفاق لا يتوافق مع الدستور السوري لن يقبل به النظام، لكن الصحيح أيضا أن هذه العبارة فضفاضة، ولا توضح المعنى الدقيق منها، فالدستور السوري لعام 2012 يتحدّث عن نوع من اللامركزية والإدارة المحلية في الحكم.
أغلب الظن أن زيارة لافروف جاءت لهذه النقطة بالذات، والمقاربة الروسية القديمة ـ الجديدة هي أن حل الأزمة السورية لن يتم عبر المسار الأممي (جنيف)، وإنما عبر مسارات ضيقة وفرعية كمساري أستانة وسوتشي، وما جنيف إلا محطة أخيرة توضع فيها الحلول المتفق عليها مسبقا.
من هنا، تعول روسيا على إدخال “الإدارة الذاتية” في ملف التسوية السورية، بما يحقق لها ثلاثة أهداف: منح روسيا قدرة على التحرك السياسي على المستوى الدولي افتقدته في الآونة الأخيرة، بعدما انتهى عمليا مسار أستانة، وأصبحت اجتماعاته مجرد بروتوكول شكلي. إحداث خرق في جدار العلاقة الكردية ـ الأميركية، وتوجيه رسائل استرضاء إلى الأميركيين إن حليفكم المحلي سيصبح جزءا من اللعبة السياسية. تمهيد الطريق لحصول تسوية سياسية بين النظام و”الإدارة الذاتية” تنعكس بشكل مباشر على الاقتصاد، بعدما توقفت أو خففت الإدارة الكردية بيعها الثروات النفطية للنظام.
وقد كشفت زيارة الوفد الروسي، ثم المؤتمر الصحافي المشترك بين المعلم ولافروف، أوهاما كثيرة في أوساط المعارضة ممن قرأت هذه الزيارة وفق الرغبات السياسية، لا وفق الإمكان السياسي. لا شك أن الروس في مأزق، ودخلوا في طريق مسدود لعدم قدرتهم على تحويل نجاحاتهم العسكرية إلى عقود سياسية قابلة للتسويق، وهم يبحثون عن مخرج سياسي للأزمة، بما ينهي حالة الاستنزاف الاقتصادية والعسكرية لموسكو. ولكن الشروط الأميركية المتاحة من جهة، وشروط النظام من جهة ثانية، أعدمت الخيارات الروسية، فإما أن تذهب مع واشنطن للضغط على النظام، أو تتخذ جانب النظام بكل حمولاته الثقيلة لمواجهة الأميركيين.. لقد اختارت الخيار الثاني، فهو وحده الذي يحفظ مصالحها البعيدة، طالما لا يوجد تغيير في أفق السياسة الأميركية.
المصدر: العربي الجديد