نجحت “جبهة النصرة” (هيئة تحرير الشام) في معظم خطوات التغيير في سياساتها الداخلية التي بدأتها قبل عامين في إدلب شمالي غربي سوريا، وشجّعها ذلك على الانتقال في خطابها من توجيه الرسائل غير المباشرة إلى التصريح العلني المباشر للتعبير عن رغبتها في نيل القبول الدولي، أو على الأقل القبول الغربي والأميركي الذي يعترف بوجودها ككيان محلي يمكن التعامل معه بشرط المنفعة المتبادلة.
وقطعت النصرة شوطاً طويلاً في تحسين أداء الإدارة المدنية في منطقة نفوذها والتي قسمتها الى عدد من الإدارات المحلية (إدارة المناطق) التابعة للإدارة المركزية ممثلة في “حكومة الإنقاذ” ومقرها مركز مدينة ادلب.
وبدا أن حكومة الإنقاذ قد حصلت مؤخراً على صلاحيات أوسع في الإدارة المدنية وذلك على حساب الإدارة العسكرية للهيئة التي كانت تتدخل في الحياة المدنية بشكل مباشر، وبالتالي يمكن القول بأن الهيئة بات لديها جيشان مهيمنان في إدلب، مدني وعسكري، ولكل منهما عمله المستقل.
حملة التغيير التي اتبعتها النصرة شملت أيضاَ، الخطاب الإعلامي الموجه للداخل والذي بدا أقل أدلجة، وهيمنت على القطاع الديني بشكل شبه كامل (مساجد ومعاهد شرعية)، وقيّدت حركة التنظيمات السلفية الأكثر تشدداً، وطاردت الشخصيات السلفية المؤثرة في الوسط الجهادي المناهض لها، وألغت دورهم.
كما سهلت النصرة الانتشار العسكري التركي، وبدت أكثر تفاعلاً في غرفة عمليات “الفتح المبين” التي تجمعها مع فصائل “الجبهة الوطنية للتحرير”، وأصبحت أكثر تحكماً في القطاعات الإنتاجية (الزراعة والتجارة والصرافة والمعابر) المحلية، ومن المفترض ان هذه القطاعات تمدها بالمال اللازم لكي يستمر عمل الموظفين الإداريين في مختلف القطاعات الخدمية.
الباحث المتخصص في الحركات الإسلامية، عرابي عرابي، يرى أن الجبهة دخلت مرحلة جديدة من التحولات البراغماتية وتريد توجيه رسائل، أهمها، أنها لم تعد تشكل خطراً على الغرب، ولم تعد تبحث عن “عولمة الجهاد”، وبدأت تعرّف عن نفسها بأنها فصيل محلي يعيش الناس في كنفه من دون مضايقات.
ويضيف أن النصرة “حددت أعداءها بقوات النظام وحلفائها، ولا تريد قتال أحد سواهم. ويوضح في حديثه ل”المدن”، أن هدف “جبهة النصرة” في الوقت الحالي “يتركز حول تحصيل الاعتراف السياسي لذا تحاول امتلاك قنوات تواصل رسمية مع الدول الفاعلة في الملف السوري من خلال تطبيع العلاقات معها والانتقال الى حالة التعامل العلني والاعتراف بشرعية الحضور”.
ويبدو أن القدر الذي حققته النصرة في سياسة التحولات البراغماتية على الصعيد الداخلي شجّعها على التوجه من جديد للخارج طلباً للرضا والقبول والمساعدة، تجلى ذلك في تصريحات مسؤول المجلس الشرعي العام في “الهيئة”، الشيخ عبد الرحيم عطون، والتي أدلى بها لصحيفة “LE TEMPS” السويسرية بداية أيلول/سبتمبر، وأثارت جدلاً واسعاً بين السلفيين المنشقين عن الجبهة، والتي اعتبروها بداية لمرحلة جديدة من التحولات وتهدف إلى التطبيع مع الغرب والخروج من قائمة الإرهاب وربما في مراحل لاحقة تطمح إلى أن تكون جزءاً من أي منظومة سياسية تخلف النظام الحالي.
الباحث في “مركز جسور للدراسات” عبد الوهاب عاصي يعتبر أن “تصريحات الشيخ عطون وهو يد أبو محمد الجولاني اليمنى تؤسس لمرحلة جديدة أكثر وضوحاً، لا سيما وأن الفترة القادمة يفترض أن تشهد جهوداً دولية أكبر لمكافحة الإرهاب في إدلب”. ويضيف في حديث ل”المدن”، أن “هذا الأمر يجعل الحاجة ماسة بالنسبة لهيئة تحرير الشام للخروج من القوائم السوداء، وعليه قد تلجأ إلى خطوات غير مسبوقة من قبيل الاستجابة لأي مقترح يضمن عدم استهدافها والحفاظ على بنيتها”.
مسؤول العلاقات الإعلامية في جبهة النصرة تقي الدين العمر قال إن “وفداً من الصحافيين العاملين في صحيفة “LE TEMPS” السويسرية دخلوا إلى إدلب بغرض الوقوف على واقع الحياة العامة والاطلاع على عمل المؤسسات”. وحول لقائهم بمسؤول المجلس الشرعي العام، الشيخ عبد الرحيم عطون، قال العمر ل”المدن”، إن “من بين الأسئلة التي وجهها الفريق الصحافي للشيخ عطون، حول علاقة الثورة والثوار بعدد من الدول، أجاب الشيخ بأن أعداء الثورة هما المحتلان الروسي والإيراني والميليشيات الموالية لهما”.
ويضيف العمر أن عطون “طالب بنقل الصورة الحقيقية عن إدلب، والكف عن إلباسها السواد أو تشبيهها بالرقة في زمن تنظيم داعش”. وأشار العمر إلى أن عطون “طالب المجتمع الدولي بدعم الناس في إدلب للوقوف في وجه العدوان والنهوض بالمؤسسات والإدارات المدنية”.
ويرى الباحث في الجماعات الإسلامية فراس فحام في حديث ل”المدن”، أن “جبهة النصرة” قد تخطّت مرحلة الرسائل الشفهية باتجاه الفاعلين الدوليين، واتخذت خطوات أبعد من ذلك مثل ضرب تنظيم القاعدة في إدلب، وملاحقة المقاتلين السلفيين الأجانب وكان آخرهم السلفي عمر أومسين، قائد فرقة الغرباء، وهي الآن تعمل على إعادة تدوير نفسها ضمن منظومة بهدف ضمان استمرارها، حتى لو كان ذلك يقابله لعب أدوار أمنية وظيفية. ويضيف فحام أنه “من غير المستبعد لاحقاً أن تتجه الهيئة إلى المزيد من الانفتاح الداخلي، وبالتحديد الى مؤسسات المعارضة الرسمية، فهي تبحث بشكل مستمر عن الشرعية”.
على أية حال، تبقى احتمالات تحقيق الهيئة لأهدافها المفترضة على النحو الذي تأمله مرتبطة بشكل مباشر في تعامل القوى الغربية الفاعلة بالملف السوري مع الرسائل التي تستمر الهيئة في توجيهها، لذا يبقى مصيرها مجهولاً، وسياساتها الداخلية والخارجية هي الأخرى تبقى مرهونة بالتغيرات الطارئة على الواقع الميداني في ادلب.
المصدر: المدن