مثقّفو فرنسا استفاقوا متأخّرين: كيف وصلنا إلى هنا؟ (1/2)

رنا نجار

فلاسفة، أدباء، فنّانون: مغنّون، موسيقيون، رسّامون، تشكيليون، سينمائيون، نحّاتون، وناشرون، وكتّاب قصص مصوّرة، ومبرمجو ألعاب فيديو، ومؤثّرون وفاعلون على وسائل التواصل،… كلّهم متخوّفون بل مرعوبون من حكم اليمين المتطرّف بعد فوز “التجمّع الوطني” في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية الأحد الماضي… هنا إضاءة على مواقف أبرز مثقّفي فرنسا، وكيف استفاقوا متأخّرين، ليجدوا اليمين المتطرّف على أبواب الحكم في بلادهم.

تتميّز قطاعات الثقافة والفنّانين والناشطين في فرنسا عن كلّ أوروبا تاريخياً بتراث مستمرّ من تأثير مثقّفيها الكبار على مسار الأحداث السياسية والاجتماعية فيها. وقد أصدرت هذه القطاعات نداءات وعرائض لحثّ الفرنسيين على التصويت ضدّ “التجمّع الوطني”، أي اليمين المتطرّف الذي تقوده مارين لوبان. واعتبر هؤلاء أنّ ما حصل الأحد الماضي في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية من تقدّم لليمين وفوزه بمعظم المقاعد يمثّل زلزالاً وخطراً تاريخياً على بلد الحرّيات.

كان مثقّفو “فرنسا جان بول سارتر” يُسجنون لأجل مبادئهم السياسية ويُنزلون الناس إلى الشوارع بمقالة أو موقف، كما حصل بعدما كتب إميل زولا مقالته الشهيرة: “أنا أتّهم”، ووجّهها إلى رئيس الجمهورية فيليكس فور في 1898، أي في عهد الجمهورية الفرنسية الثالثة.

كان يُحسب للمثقّفين ألف حساب كقاعدة جماهيرية مؤثّرة. فالرئيس نيكولا ساركوزي مثلاً، المغضوب عليه من اليسار، كان واعياً لهذا الموضوع واستعان بفيلسوف يمينيّ جديد في حينها، بيرنارد هنري – ليفي. وحاول خلال حملته الانتخابية التقرّب من الفنّانين والاستثمار بأصدقاء زوجته المغنّية كارلا بروني لتلميع صورته.

الأسئلة في نهاية الجمهوريّة الخامسة

هناك أسئلة كثيرة تُطرح حول الديمقراطية وحقوق الإنسان على مشارف “نهاية” الجمهورية الخامسة. منها:

هل بات صوت المثقّفين في فرنسا مغيّباً؟

ألا تزال الأحزاب والجبهات والائتلافات تُصغي لآراء الكتّاب والفلاسفة والأكاديميين والفنّانين؟

لماذا أصبح صدى المثقّفين في فرنسا التي أنتجت فولتير وجان جاك روسو وإميل زولا وميشيل فوكو وسارتر، صامتاً؟

هل الارتداد نحو اليمين المتطرّف كما حصل في أكثر من بلد أوروبي وفي الولايات المتحدة، هو طاعون فرنسا الجديد؟

أم هذا التقدّم المزلزل لـ”التجمّع الوطني”، الذي يبدو أنّه لا يمكن إلغاؤه أو غضّ النظر عن خطورته وإن لم يحظَ الأحد المقبل بغالبية عظمى، قد يُشكّل صدمة ثقافية ونفسية إيجابية لأهل الثقافة واليسار والوسطيّين “المصابين بموجات إحباط ويأس” (كما عبّرت الكاتبة آني أرنو بعد زلزال الأحد الماضي) من الأوضاع التي وصلت إليها البلاد؟

تُطرح هذه الأسئلة في المجلّات الثقافية الفرنسية، وفي الجرائد والبرامج الحوارية. وذلك بعد انكسارات التجارب اليسارية والاشتراكية منذ ثمانينيات القرن العشرين وفشلها. وبعد تراجع دور الأحزاب بشكل عام، وخصوصاً الأحزاب اليسارية بسبب عدم وجود برامج سياسية حقيقية وواضحة للالتفاف حولها. ولا ننسى خيبة الأمل من حُكم مُمثّل اليسار فرانسوا هولاند، ثمّ من حكم إيمانويل ماكرون وسياساته الفوضوية التي أرجعت البلاد إلى الوراء… كلّ ذلك التراكم كان كفيلاً بإصابة الفاعلين الثقافيين بالإحباط، وبالتالي دفعهم إلى الانسحاب من دورهم التاريخي في الحياة السياسية منذ الجمهورية الأولى.

استفاقة متأخّرة: دفاعاً عن النّفس

لكن يبدو أنّ “أهل الثقافة وأهل اليسار الذين تركوا الناس ولم يستمعوا إلى هواجسهم وقلقهم”، كما وصفتهم مؤسِّسة “مسرح الشمس السياسي” أريان منوشكين، تأخّروا على هذه اليقظة التي تعاظمت وتضافرت هذا الأسبوع كردّة فعل على “الانتقال من ورثة ديغول إلى ورثة فيتشي”!

اليمين المتطرّف الذي لم يحقّق في تاريخ الجمهورية الخامسة أكثر من 4 ملايين صوت، في حين فاز الأحد الماضي بحوالي 11 مليون صوت، بدأ بمحاربة الثقافة والتنوّع وبالتركيز على المسألة العرقية منذ جان ماري لوبن، والد مارين لوبان التي تقود هذا اليمين اليوم، وذلك على مستويات مختلفة، وخصوصاً من خلال رؤساء البلديات اليمينيين في الأرياف، ليشنوا حروباً خاصة وضيّقة بوجه عالم الثقافة والفنّ وفضاءاته والأقلّيات.

التغيّرات الحاصلة اليوم في بنية الحياة السياسية وصعود اليمين المتطرّف بدأت منذ الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 2017 حين سقط نجم ووقْع وتأثير صوت الثقافة والفكر والفنّ على السياسة مع تشرذم أحزاب اليسار وانقساماته.

الخوف والرهاب ممّن يصفه المثقّفون بـ”عدوّ الثقافة” يأتيان من خلفيّات حزب التجمّع الوطني وسياساته التي “سينتهجها في حال فوزه في الجولة الثانية ودخوله الحكومة، ضدّ الفنّانين والعاملين في القطاع الثقافي ككلّ الذي يعتمد بشكل أساسي على المال العامّ”.

إذاً الخوف هو أوّلاً على مصالح هذا القطاع، ويمكن اعتباره “دفاعاً عن النفس” تحسّباً من تخفيض الدعم المادّي وإلغاء التأمين على البطالة وتقييد حرّية الابداع، وخصوصاً أنّ الفنّ ليس من أولويات التجمّع الوطني كما تقول كارين أوويت، السكرتيرة الوطنية لنقابة الموسيقيين والموسيقيات. ومحاربة التنوّع هي مصدر خوف وقلق لبعض فرق الأوركسترا والأوبرا.

اليمين المتطرّف أينما فاز، كما حصل في إيطاليا والمجر، حارب الثقافة. وفي المقابل، يحظى حزب “الجبهة الشعبية الجديدة” بشعبية لدى الفنّانين والمثقّفين، وإن كانت هناك انتقادات كثيرة لأنّه لطالما كانت الثقافة الطفل المدلّل للأحزاب اليسارية.

كيف وصلنا إلى هنا؟

هذا هو السؤال الأساسي المطروح اليوم في فرنسا، وخصوصاً من المثقّفين، بعد حصول حزب التجمّع الوطني وحلفائه على المركز الأوّل في الجولة الأولى من الانتخابات بنسبة 33.15 في المئة من الأصوات.

“كيف وصلنا إلى هنا؟”، هو سؤال طرحه وأجاب عليه مثقّفون كبار. اخترنا بعضاً من أجوبتهم، في الحلقة الثانية غداً، حول ما قاله آني آرنو وآلان غريش وإدغار موران وباتريك شاموازو وألكسندر تارو وآريان مانوشكين.

المصدر: أساس ميديا

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. هل مثقّفو فرنسا استفاقوا متأخّرين؟ أم إنهم إستفاقوا وأنجزوا ؟ الإنتخابات الفرنسية بجولتها الثانية أثبتت بأنهم أنجزوا المطلوب وأوقفوا صعود اليمين المتطرف.

زر الذهاب إلى الأعلى