حسن النيفي… رحل من قاوم الطغيان بالكلمة

محمد أمين

مات حسن النيفي غريباً. نبأ كان له وقع الصدمة على من جمعته صداقة أو معرفة بالراحل النبيل. وافته المنيّة عن عمر ناهز الثانية والستين في باريس.
أفضى حسن النيفي بعد أن خلّف إرثاً نضالياً وطنياً خالصاً وإرثاً ثقافياً شعرياً، فالكلمة كانت سلاحه في مواجهة الطغيان.
ربما لا يعرفه سوريون كثيرون. وربما لم يسمعوا عنه، مثل آلاف السوريين الذين نذروا حياتهم من أجل مقاومة الطغيان والاستبداد من دون ضجيج أو صخب. آلاف قضوا زهرات شبابهم في معتقلات آل الأسد قابضين على جمرة الرفض والثورة وتحدي الظلم. لم ينتظروا تكريماً من أحد.
نُقل حسن النيفي مع آخرين إلى سجن صيدنايا سيئ الصيت في شمال شرقي دمشق، حيث بقي فيه عدّة أشهر قبل أن يفرج عنه في عام 2001
حسن النيفي والذي توفي الخميس في باريس بعد صراع لم يطل مع سرطان البنكرياس، واحد منهم، بل في مقدمة صفوفهم. ابن منبج والمولود فيها عام 1963 قضى نحو 15 عاماً في سجون الطاغية الأسد الأب. تنقّل بين سجونه ومعتقلاته مناضلاً، فقد اعتقل في منتصف الثمانينيات من المدينة الجامعية في حلب، وكان في السنة الأخيرة من دراسة اللغة العربية. قضى سنوات في سجن حلب المركزي ومثلها في سجن عدرا بريف دمشق، قبل أن يُنقل إلى سجن تدمر الرهيب في قلب البادية الذي كان العنوان الأسود والأسوأ لمرحلة حافظ الأسد الذي أسّس لـ “جمهورية الخوف”، وأورثها في عام 2000 لابنه.
أمضى النيفي الذي كان متهماً بالانتساب إلى ما كان يسميه النظام البائد بـ “البعث اليميني”، أو “بعث العراق”، و”مناهضة أهداف الثورة”، ست سنوات في تدمر، بسبب رفضه مساومات النظام البائد الأمنية. وصف النيفي يوماً تلك السنوات بـ “مساحة زمنية مليئة بالعذاب”، ولكن الأمل بالحرّية “لم أفقده حتى في أشد حالات التعذيب والمرارة، فنوافذ الأمل كانت مفتوحة في روحي”، كما قال في حديث تلفزيوني.
نُقل حسن النيفي مع آخرين إلى سجن صيدنايا سيئ الصيت في شمال شرقي دمشق، حيث بقي فيه عدّة أشهر قبل أن يفرج عنه في عام 2001. اعتقل وهو في الثالثة والعشرين، وخرج وهو في الثامنة والثلاثين، أي أن أجمل سنوات عمره قضاها خلف القضبان وفي معتقلات الخوف، من دون تهمة أو محاكمة عادلة، مثل عشرات آلاف السوريين. كان يحظى باحترام الجميع ومحبتهم، فقد كان “يفرض عليك احترامه منذ الدقائق الأولى للقائه، ثمّ يتزايد الاحترام المدهش بعد معرفته عن قرب”، كما قال أحد أصدقائه في رثائه. رثاه ونعاه كثيرون على صفحات التواصل الاجتماعي، فالنبأ صادم، والفقد كبير، فـ “سورية فقدت واحداً من رجالها المخلصين”.
كان حسن النيفي واحداً من الناجين من سجون الأسد الأب التي قضى فيها تحت التعذيب أو نتيجة التصفيات المباشرة الكثير من المناضلين المناهضين لنظامه 30 عاماً، سيما في عقد الثمانينيات، وهو العشرية الأكثر وطأة وقسوة ووحشية على السوريين في حكم الأسد الأب.
تحدّث النيفي أكثر من مرّة بمرارة عن تلك السنوات التي تنقل خلالها بين السجون، ولكن الظلم والاستبداد وسنوات الخوف لم تُذبل جذوة الحياة في روح النيفي وجسده، فبعد خروجه، أصدر مجموعتين شعريتين “رماد السنين”، 2004، و”مرافئ الروح” 2010.
كان حسن النيفي يطلّ على السوريين يتحدّث والفرحة تغمره عن هذا الانتصار، مستذكراً السنوات الأليمة التي قضاها في المعتقلات
في 2011 وفي ربيعه، كانت الثورة المنتظرة. لم يذهب نضال النيفي ورفاقه، من مختلف التيارات السياسية في المعتقلات هباء، فالظروف في ذلك العام نضجت على نار عذاباتهم التي لم تنطفئ يوما أكثر من 40 سنة، لتمتلئ شوارع سورية بالهاتفين للحرية والكرامة والباحثين عن حياة أفضل. كل تلك السجون والمعتقلات، وكل ذاك القمع على مدى عقود سوداء لم يشل إرادة السوريين الذين أعلنوا في ذلك العام ثورة ظلت حديث العالم ومحور اهتمامه 13 سنة.  لم يتأخّر النيفي في الالتحاق بركب الثورة، فشارك في حراكها السياسي، وتولّى مهامّ في مجلس محافظة حلب الحرة خلال عامي  2014– 2015. استقر في غازي عينتاب جنوب تركيا أكثر من سبع سنوات وفيها، برز متحدّثا ومدافعا عن الثورة بالكلمة والقصيدة والموقف، من خلال “حزب النداء الوطني الديمقراطي” الذي شغل فيه منصب رئيس المكتب السياسي.
غادر في عام 2022 تركيا إلى فرنسا لاجئاً في بلد آخر بعيداً عن وطنه الذي كان في ذلك العام دخل نفق اليأس من انتصار الثورة. ساد اعتقاد في ذلك العام والعام الذي تلاه أن الأسد ونظامه باقيان، فالعالم كان بصدد إعادة تأهيله. ولكن الشعوب التي تريد الحياة لا بد أن يستجيب لها القدر ولو بعد حين.
تناقلت وسائل الإعلام، في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 2024، على استحياء، أنباء عن بدء المعارضة السورية عملية عسكرية ضد نظام الأسد اسمها “ردع العدوان”. كان الكلّ يتوقع ألا تستمر هذه العملية سوى عدة أيام لتنتهي كما انتهت سابقاتها من دون تحقيق اختراقات تذكر. 11 يوماً فقط احتاجها الثوار للعودة إلى دمشق فاتحين. انتهت حقبة الأسد السوداء إلى الأبد.
قال يوماً: “لو تواجهت مع السجان الذي عذّبني، لا يمكن أن أنتقم منه بأن أعذبه، فأنا لست سجاناً”
كان حسن النيفي يطلّ على السوريين يتحدّث والفرحة تغمره عن هذا الانتصار، مستذكراً السنوات الأليمة التي قضاها في المعتقلات، ولم يفقد خلالها الأمل بانبلاج الصبح. … ويبدو أنه كان قد أحس بدنو الأجل، فقرّر أن يختم حياته بكتاب يتناول يومياته خلال تنقله بين سجون مختلفة، واختار له عنواناً “مطارح الحالمين”، الذي كان من المقرّر أن يصدر قريباً بعد أن أنهت دار موزاييك للنشر ترتيبات إصداره، لكن الأجل كان أسرع. ولكن كلمات الكتاب وكل ما كتبه النيفي في كتبه ومقالاته وقصائده سيبقى لمن بعده، أثراً للنضال والأمل، وهو الذي كتب عن سجونٍ ملأها الموت والخوف والدم أنها “مطارح الحالمين”، بالحرية والفجر رغم ليالي السجون الطويلة. … قال يوماً: “لو تواجهت مع السجان الذي عذّبني، لا يمكن أن أنتقم منه بأن أعذبه، فأنا لست سجاناً”. بهذا الفكر، كان حرّاً وأراد الحرية له ولغيره وحتى لسجانه.
أوصى النيفي أن يُدفن في تراب سورية، فقدره لم يمهله للعودة إليها جسداً وروحاً. وبدأت وزارة الثقافة في الحكومة السورية باتخاذ الإجراءات والتسهيلات اللازمة لجلب جثمانه إلى بلاده ليحظى بوداع شعبي يليق بتاريخه النضالي الوطني.
مات حسن النيفي، لينضم إلى قافلة الراحلين في المنفى غرباء بعيدين عن وطنهم، ولكن العزاء، كل العزاء، أنه شاهد منظومة الاستبداد تتصدّع وتتهاوى فغدت هشيماً تذروه رياح النصر.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى