
مشكلتهم، المعلّقين في الصحافات الإسرائيلية من كارهي نتنياهو، أنهم يسمّون إنجازاتٍ كبرى له، من قبيل تدميره غزّة وإنهاكه “حماس” وقتل قياديين فيها، وإجهازه على حسن نصر الله ورفاقٍ له، وإضعافه حزب الله، وضربه إيران، وقصفه اليمن غير مرّة، ولا ينسون فداحة مسؤوليّته عن التقصير الفادح في واقعة “7 أكتوبر”، ومراوغاته في غير شأن، وشبهات فساده وإفساده. وقد وصل الأمر بمعلّقٍ في “هآرتس” (ليس مهمّاً ذكر اسمه) إلى أن ينعته “أحقر شخصٍ في تاريخ الشعب اليهودي”، ولكن هذا الصحافي، في الوقت نفسه، لا يغفل عن إنجازٍ آخر لنتيناهو، اتفاقية تصدير غازٍ إسرائيلي إلى مصر، يصفها بأنها “جيّدة”، فيما هي أرفع، فلم يتزيّدا، نتنياهو نفسه ووزير الطاقة في حكومته إيلي كوهين، في قولهما إنها اتفاقيّة تاريخية.
أما مشكلتنا، نحن المعلّقين في بعض الصحافات العربية، مع أنظمة حكمٍ في بلادنا، ولسنا نعتمد الكراهية موقفاً سياسياً، فأننا لا نكاد نقع على مُنجزٍ ثقيلٍ لأيٍّ منها، نوازيه مع انتقاداتنا لها (يحسُنُ أن نكون في الصحافة المستقلّة ناقدين لا معارضين)، بل كوارثُ غير هيّنةٍ تقترفها هذه النظم تتوازى مع تراجعٍ شديدٍ على غير صعيد، ونموذج تونس الراهنة أسطعُ مثالٍ على هذه الحقيقة. وفي مصر التي يجوز التأشير إلى تحسّنٍ في الخدمات وانخفاضٍ في البطالة يحدُثان فيها، وكذا أوراش بناء وتعمير، لا يمكن التعامي عن سؤالٍ يفرض نفسه، بشأن تحوّلها من بلدٍ مصدّر للغاز إلى مستورد له… من إسرائيل!. وهي التي كان مسؤولون فيها يعدون، قبل أقلّ من عشرة أعوام، إلى أن تصبح أكبر مورّدٍ للغاز إلى أوروبا، لكن الإنتاج منه بدأ ينخفض بشيءٍ من التسارع. ولأنه من غير أهل الاختصاص والدراية في الأمر، لا يمكنه، صاحبُ هذه الكلمات، “حسم” إجابةٍ عن هذا السؤال الأشبه باللغز، إلا أن في وُسعه القول، بفائضٍ من الاطمئنان، أيّاً كانت الأسباب الطبيعيّة، والمتعلّقة بوجود الغاز نفسه في حقوله، فإن عقل الدولة المصرية لم يكن بالكفاءة اللازمة لحماية البلد من أن يُرهَن أمنُها الطاقووي (أظنّها جائزةً نحوياً؟) للخارج، ولتطوير حقولٍ كانت واعدةً، ولترشيد الاستهلاك المحلي، وغير هذه وغيرِها من إجراءاتٍ لزم أن تكون إبداعيةً، وأن تكون على طاولة صانع القرار في المطبخ السياسي المصري، فلا يجد البلد نفسَه أمام “إنجازٍ” يعتَدّ به نتنياهو لشخصه، إذ تُعقد صفقة، تستورد بموجبها مصر الغاز الإسرائيلي ضمن عقدٍ حتى عام 2040 بقيمة 35 مليار دولار، لاستيراد 130 مليار متر مكعّب من الغاز.
بدون التورّط في مجادلةٍ لا طائل منها، بشأن “حاجة” مصر إلى هذا الغاز من دولة الاحتلال (وليس من غيرها، كما يقول مسؤولون أردنيون بشأن استيراد غازٍ منها أيضاً!)، هذه الواقعة شاهدٌ آخر على انكشافٍ مصري، لا شطط في نعته بأنه مريع. يتوازى مع فشلٍ مصريٍّ ظاهرٍ في السودان، لا تغطّي عليه لغة بيان الرئاسة، الأسبوع الماضي، في قوله إن الحفاظ على مؤسّسات الدولة السودانية ومنع المساس بها أو تقويضها يُعدّ “خطّاً أحمر لا يمكن تجاوزه”، مشدّداً على حقّ مصر الكامل في اتخاذ كل التدابير والإجراءات التي يكفلها القانون الدولي، واتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين، بما يضمن عدم المساس بهذه الخطوط الحمراء أو تجاوزها. والمشتهى أن تُغادر القاهرة نبرة “التلويح”، والتصريحات الغاضبة، إلى منطقة الفعل الذي يساهم في وقف التهديم الذي ترتكبه مليشيات “الدعم السريع” في الدولة الجارة، فقد “تجاوز الظالمون المدى”، كما قال الشاعر.
إنه فقدُ مصر في غضون الخراب العربي الراهن يضطرّنا إلى أن نُكثِر التعاليق في شؤونها، ومن هذه الشؤون، على ما يجدُر أن لا ننسى، ازورارُها عن التواصل مع الحكم الراهن في سورية، البلد الذي لا يليق أن يُترك بقضاياه المعقّدة، ومشكلاته الداخلية المركّبة، في مهبّ الاحتمالات، وفي الحسابات التركية والرهانات الأميركية والتطلّعات الروسية، فيما مصر مبتعدةٌ عن سلطةٍ لا تستجيب لطلبها تسليم بضعة أشخاصٍ لها، فيما الأدعى أن تكون سورية نفسها الموضوع والقضية، لو أن في مصر عقلاً سياسيّاً استراتيجيّاً آخر، الراجح أن غيابه جعل إثيوبيا تفعل ما تفعل في النيل، وحميدتي يتشاوف في جرائمه، ونتنياهو يعتزّ في أثناء المذبحة في غزّة باتفاقية غازٍ تاريخية، … وهلمَّ جرا.
المصدر: العربي الجديد






