
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، خرجت الولايات المتحدة الأمريكية كأقوى دولة في العالم، مستفيدة من قدراتها الصناعية والعسكرية الهائلة واستقرارها الداخلي، مقارنة بالدول المدمرة بالحرب.
ومع تأسيس نظام عالمي جديد قائم على المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي، لعبت دور القائد والمحفّز للاستقرار العالمي، مستندة إلى قوّتها الاقتصادية والعسكرية، وخلق شبكة من التحالفات التي ضمنت مصالحها وحماية حلفائها.
مع انهيار الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيات، دخل العالم مرحلة الأحادية القطبية، حيث أصبح للولايات المتحدة اليد الطولى في صياغة السياسات الدولية، سواء في الأمن أو الاقتصاد أو السياسة الخارجية. بالنسبة للعديد من الحلفاء، بدا أن هذه الفترة توفّر لهم درعاً شبه مطلق من الحماية، لكن الواقع أثبت هشاشة هذا الدرع في أكثر من مناسبة. هذا النموذج أحادي القطب لم يدم بلا تحديات، وبدأت تظهر مؤشرات على حدود القدرة الأمريكية، نتيجة الانخراط في حروب مكلفة بعيدًا عن مصالحها المباشرة، أو ظهور لاعبين دوليين جدد يطالبون بإعادة التوازن.
ابتزاز الحلفاء: أوكرانيا نموذجًا (فبراير 2025)
كان 28 شباط /فبراير 2025 يومًا متوترًا في البيت الأبيض، حين اشتعلت المشادّات بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي حول توقيع اتفاقية المعادن النادرة. حاول الجانب الأمريكي استخدام هذه الاتفاقية لضمان مصالحه الاستراتيجية في المنطقة، ما اعتبره البعض ضغطًا سياسيًا مكثفًا على كييف.
أدى التوتر إلى إلغاء توقيع الاتفاقية، بعد أن وصف ترامب تصريحات زيلينسكي بأنها «غير محترمة»، بينما اعتبر زيلينسكي أن شروط الاتفاقية لم تكن عادلة لأوكرانيا. هذه الحادثة تُظهر بوضوح أن واشنطن لا تمنح الحلفاء حماية حقيقية، بل تستخدم العلاقة كأداة ابتزاز سياسي واقتصادي.
حتى في أوروبا، دفع الحلفاء أسعارًا مضاعفة للحصول على الغاز الأمريكي بدل الروسي، كما أشار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ما يؤكد أن الدعم الأمريكي ليس مجرد حماية، بل صفقة تكاليف مقابل مصالح واشنطن.
سياسة التخلي الأمريكية وأثرها على الحلفاء
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (Brexit) أظهر هشاشة التحالفات التقليدية، بينما تصريحات المستشار الألماني فريدريش ميرتس بأن زمن الحماية الأمريكية التقليدية «قد انتهى»، تؤكد أن أوروبا بحاجة إلى تعزيز قدراتها الدفاعية المستقلة بدل الاعتماد على أي ضمان أمريكي وهمي.
درس أفغانستان: عندما تُسحب الحماية
تجربة أفغانستان (2021) نموذج صارخ لكيفية تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها بعد استثمار هائل في بناء قدراتهم العسكرية. أنفقت واشنطن حوالي 83 مليار دولار على الجيش الأفغاني وتجهيزه، لكنه انهار بسرعة أمام طالبان عند انسحاب القوات الأمريكية، وسقطت العاصمة كابل بين عشية وضحاها بعد حرب استمرت 20 سنة.
تجربة أفغانستان (2021) نموذج صارخ لكيفية تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها بعد استثمار هائل في بناء قدراتهم العسكرية
نموذج قسد في سوريا: احتمالية تكرار تجربة أفغانستان
في عزّ الوئام الأمريكي الـ»قسدي» عامي 2016 و2018 قامت تركيا بعمليات عسكرية ضدَّ «قسد» بضوء أخضر أمريكي! ومع قرب تطبيق اتفاق 10 آذار/مارس 2025 بين الحكومة السورية و»قسد»، هناك إشارات ملموسة على إمكانية تكرار نمط أفغانستان. الاتفاق منح مهلة محددة لاندماج «قسد» ضمن القوات النظامية، لكنها لم تلتزم بالاندماج حتى الآن، ما يضعها أمام احتمال تخلٍ أمريكي إذا لم تلتزم المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة.
قطر وحدود الحماية الأمريكية
في 9 أيلول/ سبتمبر 2025، شنت القوات الجوية الإسرائيلية ضربة جوية في الدوحة استهدفت اجتماعاً لقيادات من حركة حماس رغم وجود قاعدة العديد الأمريكية، ما يُظهر أن الحماية الأمريكية ليست مُطلقة، وأن الحلفاء معرضون لاختبار حدود الحماية الأمريكية حسب مصالح واشنطن.
تركيا 2015: حدود الحماية ضمن الناتو
حادثة إسقاط تركيا مقاتلة روسية سوخوي 24 في 24 تشرين الثاني / نوفمبر 2015 تُظهر أن حتى حليفًا قويًا في الناتو، مثل تركيا، قد يبقى مكشوفًا أمام قوة كبرى.
رغم عضويتها في الحلف وامتلاكها ثاني أكبر جيش فيه، اقتصرت استجابة الناتو على دعوات سياسية للتهدئة دون تدخل عسكري مباشر. هذه الواقعة تؤكد أن الحلفاء يُستغلون أكثر مما يُحمَون، وأن الاعتماد المطلق على الولايات المتحدة أمر محفوف بالمخاطر.
حاميها حراميها
كما يقول المثل العربي: «حاميها حراميها». المشكلة الحقيقية أن الولايات المتحدة غالبًا هي التي تقوم بصناعة الخوف أولًا، ثم تقدّم الأمان مقابل هذا الخوف. هذا الأمان الذي تقدّمه ليس مجانياً كما يقال، بل ثمنه غالبًا باهظ، سواء كان بالدعم المالي الهائل، أو بالتزامات سياسية وعسكرية، أو بفرض قرارات تخدم مصالحها الخاصة على حساب مصالح الحلفاء.
هذه الديناميكية توضح أن الحلفاء لا يحصلون على حماية حقيقية، بل يصبحون أدوات ضمن استراتيجية أكبر للضغط السياسي والاقتصادي، وهو ما نراه بوضوح في أوكرانيا، أوروبا، وحتى حلفاء مثل تركيا وقطر.
حدود الحماية الأمريكية: رأي إعلامي شعبي
وكما يقول الإعلامي المميز الدكتور فيصل القاسم: «المُتغطي بال أمريكان عريان».
هذا القول يؤكد أن الحماية الأمريكية لها حدود وليست مطلقة أو زمنية غير محدودة، وما أكثر الأدلة التي تصدق هذه المقولة – من أفغانستان، إلى «قسد»، وحوادث قطر وتركيا، حيث ظهر مدى هشاشة الاعتماد على حماية أمريكية مُطلَقة.
وكما تُنسب إلى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر مقولة شهيرة تختصر طبيعة العلاقة مع واشنطن يقول فيها : قد يكون من الخَطِر أن تكون عدوًا للولايات المتحدة، لكن الأخطَر أن تكون حليفًا لها.
وهي مقولة تلخّص ببلاغة منطق السياسة الأمريكية القائمة على المصالح المتغيرة لا على التحالفات الدائمة، وتجد تطبيقاتها العملية في تجارب عديدة عاشها حلفاء واشنطن عبر العقود.
نهاية زمن الحماية التقليدية
تاريخ الحلفاء والأمثلة الواقعية يُظهر أن زمن الحماية الأمريكية التقليدية يمر بتحولات جوهرية. الانسحابات التدريجية، التوترات مع الحلفاء، والاستراتيجيات السياسية والاقتصادية الجديدة، كلها تشير إلى أن الولايات المتحدة لا تمنح الحماية بلا مقابل.
لكن السؤال الجوهري يبقى: إلى أي حد يمكن الوثوق بهذه الحماية الأمريكية، وهل تستحق الكلفة التي تُدفع من أجلها؟
باعتقادي، الأموال التي تدفعها الدول الحليفة للولايات المتحدة – بين قوسين مقابل الحماية الأمريكية – كافية لإنتاج قوة ردع مستقلة تكفيها وتحمي مصالحها، وتضمن أمن شعوبها دون الاعتماد المطلق على أي طرف خارجي.
أمام الحلفاء اليوم خياران: تعزيز قدراتهم الذاتية أو البحث عن بدائل إقليمية ودولية، ما يجعل مفهوم «الحماية الأمريكية» أكثر نسبية وأقل حسمًا. برأيي، أصبح لزامًا على الحلفاء، وخصوصًا الدول العربية، مراجعة جدوى هذه التحالفات، والبحث عن بدائل موثوقة، والعمل على بناء قدرات دفاعية قوية، وعقد معاهدات دفاع مشترك مع دول مثل تركيا وباكستان.
كاتب سوري
المصدر: القدس العربي



