عرب الصدمة الإيرانية

عبدالحليم قنديل

   فيما يبدو ” جو بايدن ” فى صورة الرئيس الحازم تجاه روسيا وحربها الأوكرانية ، ويوحد الغرب الأمريكى والأوروبى فى حملة انتقام ضد كل ما هو روسى، حتى وإن بدا السعار موقوتاً ، وعرضة لتشققات بسبب مصالح أوروبا فى البترول والغاز الروسى ، لكن صورة الحزم المصنوعة ، تبهت ملامحها ، وتتحول إلى حيرة “هاملت” فى الموضوع الإيرانى ، ويبدو الرئيس الأمريكى مشتتا ضائعا مستريبا فى مساع للعودة للاتفاق النووى الإيرانى ، كانت مواعيدها قد حانت أوائل مارس 2022 ، قبل أن يتقرر وقف مفاوضات “فيينا” ، ومن دون تحديد موعد نهائى للتوقيع الجامع .

   وكانت موسكو قالت أنها حصلت على ضمانات أمريكية مكتوبة ، تؤكد عدم تأثر علاقات روسيا الاقتصادية والتجارية والنووية مع إيران بطوارئ العقوبات المفروضة على موسكو ، وجرى اجتماع فى موسكو بين “سيرجى لافروف” ونظيره وزير الخارجية الإيرانى ، أكد فيه الطرفان على مقتضيات معاهدة الصداقة والتعاون بين الدولتين ، وحرصت موسكو على إعلان دعمها لمطالب طهران ، وحشر الطرف الأمريكى فى الزاوية ، بعد أن سلم بأغلب الشروط الإيرانية فى المفاوضات الماراثونية ، وأهمها الإلغاء شبه الكامل للعقوبات الأمريكية ، وإن تبقت العقبة الأهم ، وهى اشتراط إيران إلغاء واشنطن لإدراج “الحرس الثورى” فى قائمة المنظمات الإرهابية ، وكان الرئيس الأمريكى السابق “دونالد ترامب” قد اتخذ القرار عام 2019 ، بعد نحو عام من إعلانه خروج واشنطن من اتفاق 2015 ، وتعهد “بايدن” بإلغاء كل قرارات “ترامب” ، لكنه يجد نفسه اليوم فى المتاهة ، فمواعيد انتخابات التجديد النصفى للكونجرس تقترب فى نوفمبر المقبل ، وحملة الجمهوريين و”ترامب” تتصاعد ضده ، وتجد فى احتمالات خضوعه لكل الشروط الإيرانية منصة هجوم مواتية ، وإلى حد اتهامه بأنه سيكون الممول الأول للإرهاب ، إن شطب “الحرس الثورى الإيرانى” من قائمة الإرهاب ، إضافة لأزمات الطاقة والتضخم وغلاء الأسعار ، مما يزيد من ارتياب “بايدن” وخوفه من إخفاق بات مرجحا لحزبه الديمقراطى فى الانتخابات التشريعية المقبلة .

  وربما تكون حيرة “بايدن” أقل وطأة من قلق الموالين لأمريكا فى النظم العربية القائمة ، وبالذات بعد حالة عدم اليقين التى تنتاب المشهد الدولى ، وتراجع سطوة أمريكا بعد الحملة العسكرية الروسية فى أوكرانيا ، وإشهار عجزها عن المواجهة العسكرية المباشرة مع الروس ، وتداعى الثقة فى جدوى ضمان الحماية الأمريكية لنظم الخليج بالذات ، وتوالى هجمات “الحوثى” ـ التابع لإيران ـ على مناطق ومنشآت حساسة فى ” السعودية” ، وقبلها فى “الإمارات” ، ومن دون تلقى دعم أمريكى فعال ، ولا حتى إعادة إدراج “الحوثى” فى قوائم الإرهاب الأمريكية ، مع التخفف الأمريكى المحسوس من نشر منظومات “باتريوت” الدفاعية فى دول الخليج ، وإعاقة عقد صفقات تسليح مهمة ، وكلها دواع مفهومة لتزايد الضيق الخليجى من السلوك الأمريكى ، وإلى حد رفض التواصل الهاتفى مع “بايدن” نفسه ، والتمرد الظاهر على أوامر الإدارة الأمريكية ، التى رغبت فى دفع السعودية والإمارات إلى زيادة إنتاج البترول ، وبهدف خفض سعر البرميل فى السوق العالمى ، بعد صعوده الهائج عقب بدء الحملة الروسية ، وهو ما يعاكس رغبة “بايدن” فى تضييق الخناق على روسيا ، التى تستفيد من ارتفاع أسعار البترول والغاز ، وتحصل يوميا على مئات ملايين الدولارات من التصدير المتاح لدول أوروبا المحتشدة وراء “بايدن” فى المسألة الأوكرانية ، والسعودية كما هو معروف أكبر منتج للبترول فى العالم ، وروسيا أكبر مصدر للبترول من خارج منظمة “أوبك” التى تقودها السعودية ، وتجمع البلدين فى العادة صيغة “أوبك بلس” ، وقد بدا التفاهم فيها على أفضل أحواله ، وربما يكون زاد وثوقا بعد الحملة الروسية ، وتلك هى المفارقة التى صدمت “بايدن” ، وأخرجت قرار الخليج ولو مؤقتا من جيبه ، وزادت من التكلفة الأمريكية المطلوب دفعها خليجيا ، خصوصا أن دول الخليج المؤثرة لا تخفى ضيقها بإدارة “بايدن” عموما ، وبسعيها للعودة لاتفاق إيران النووى ، ورفضها إدراج موضوعى الصواريخ الباليستية وتدخلات إيران عربيا فى المفاوضات ، وميلها إلى رفع “الحرس الثورى الإيرانى” من قوائم الإرهاب ، وهو ما يجعل الإدارة الأمريكية الحالية تبدو ، وكأنها انتقلت من خانة “الكفيل الأمنى” إلى موقع الخصم لدول الخليج ، ويدفع الأخيرة للبحث عن موارد حماية أخرى ، قد تتضمن تطوير علاقات السلاح والاقتصاد مع الصين وروسيا ، والأخيرتان للمفارقة على علاقات وثيقة مع إيران نفسها ، التى تتطلع لتسريع العودة إلى الاتفاق النووى ، واستعادة أصولها المالية المجمدة ، والإفراج عن ما قد يصل إلى مئة مليار دولار ، فوق العودة لتصدير بترولها بحرية ، بدءا بإنتاج  ما يزيد على مليون ونصف المليون برميل بترول يوميا .

  وقد يبدو لأول وهلة ، أن تحرر حكومات الخليج من وهم الحماية الأمريكية ، يعد تطورا إيجابيا ، لكن الصورة فى عمومها أكثر تعقيدا ، وإغراءات اختلاط الأوراق فى ذروتها ، وبالذات مع ميل البعض إلى استبدال إسرائيل بأمريكا ، والتعويل على رفض إسرائيل للمشروع النووى الإيرانى برمته ، وما يقال عن تصميم “إسرائيل” على توجيه ضربة عسكرية للمنشآت الإيرانية ، وقد تفعلها “إسرائيل” بالجملة أو بالتقسيط ، وبرضا أمريكا أو بتغاضيها ، لكن مفعول هذه الضربات إن جرت ، يبدو مشكوكا فى جدواه ، فقد تخطت إيران العتبة النووية من سنوات ، وراكمت معارف وتقنيات نووية متقدمة ، وصار بوسعها إنتاج قنابل ذرية فى الوقت الذى تقرره ، وضرب منشآت أو اغتيال علماء ، لم يعد يعنى شيئا معيقا ، بعد التقدم الذى أحرزته إيران فى نسب تخصيب اليورانيوم ، وفى التصنيع الذاتى الهائل لأجهزة الطرد المركزى ، أى أن إيران وصلت نوويا إلى نقطة اللاعودة ، ولم يعد يوقفها التقييد النووى باتفاق جديد ، لا يتوقع عاقل أن يصمد طويلا ، مع تغيرات واردة بشدة فى الإدارة الأمريكية ، وتوقع إخفاق “بايدن” والديمقراطيين فى الانتخابات التشريعية ثم الرئاسية بعدها بعامين ، وقد تعنى العودة للاتفاق نفعا اقتصاديا ظاهرا لإيران ، لكنها لا تعنى ضررا أكيدا لمشروعها النووى ، الذى يعود تاريخه إلى أيام الشاه عام 1957 ، ونجحت إيران الخمينية فى تطويره ، برغم تراكم عقوبات الاقتصاد ، التى تحايلت عليها طهران ، بإنشاء نظام مالى ومصرفى سرى ، بتجارة المقايضات والحسابات المقنعة فى بنوك أجنبية ، وبمئات من شركات الواجهات فى الخارج ، وبمواصلة التعامل الرسمى مع شركاء قادرين كالصين والهند ، ومن دون أن تتراجع تدخلات إيران عربيا عبر جماعاتها ، خصوصا على خطوط المواجهة مع كيان الاغتصاب الإسرائيلى فى غزة ولبنان .

  والمعنى ببساطة ، أنه لا فائدة ترتجى من التعويل على “إسرائيل” فى مواجهة إيران ، ولا قيمة مؤكدة لاجتماعات قمة مع قادة الكيان ، فوق تصادم هذه الممارسات بفظاظة مع أبسط المشاعر الوطنية فى الشارع العربى ، الذى يرفض ويدين أى تطبيع ومن أى نوع مع كيان الاحتلال ، لا يعنى سوى المقامرة بمقدرات الأمة وثرواتها ، والمغامرة حتى باستقرار الحكومات ذاتها ، ولو كان لدى هؤلاء أدنى حس شعبى أو تفكير عقلانى ، ربما لبحثوا عن اختيار آخر ، يولى عنايته لقمم العرب الغائبة ، لا لقمم مريبة مع الإسرائيليين ، ويركز على بلورة مسار للأمة المنكوبة فى عالم يتغير بسرعة ، يعيد صياغة علاقات الإقليم مع إيران وغيرها ، وقد نذكر هنا ، أن قفزات أسعار البترول بدت كفرص ضائعة ، فقبل القفزة الراهنة ، كانت هناك قفزة فى غمار الأزمة المالية العالمية عام 2008 ، وقبلها بعقود ، ومع الحرب العربية النظامية الأخيرة ضد “إسرائيل” عام 1973 ، والقطع الموقوت لتصدير البترول إلى الغرب ، كانت القفزة المؤسسة لتراكم الثروات الخليجية ، وقتها كانت الحالة العربية العامة أفضل بكثير ، وفكر بعضهم وقتها فى تطوير طفرى لصناعة سلاح عربية ذاتية ، وجرى اتفاق مصرى ـ خليجى على إنشاء “الهيئة العربية للتصنيع” عام 1975 ، وكوعاء يجذب الوفرة المالية الخليجية مع الخبرات الفنية المصرية وغيرها ، بدا المشروع الطموح كحلم ، سرعان ما تعثر وتبخر مع تطورات وانهيارات صادمة فى السياسة العربية ، ومع عقد الاتفاق النووى الإيرانى عام 2015 ، بدا أن هناك أملا يراوغ بقمة “شرم الشيخ” العربية فى العام نفسه ، وجرى طرح اقتراح بإنشاء قوة عربية مشتركة ، وافقت عليه الأغلبية فى الظاهر ، وما إن بدأت إجراءات التنفيذ ، حتى تراجعت أطراف مؤثرة ماليا ، وأوقفت المشروع كله ، ربما تفضيلا لدفء “الكفيل الأمنى” ، الذى ينتقل مزاده اليوم من أمريكا إلى إسرائيل ، وكأن المعنيين يستجيرون من الرمضاء بالنار ، ويصرون على إهانة الأمة وإضاعة العقل تحت تأثير الصدمة الإيرانية ، وفى عالم لا يعترف للضعفاء بمكان تحت الشمس ، حتى لو ملكوا أموال “قارون” .

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى