
لا يمكن لشخص عاقل التنصل من الحقائق التي كشفتها بصورة فاضحة جريدة الواشنطن بوست عن وجود علاقات سياسية وعسكرية ومالية بين كل من اسرائيل وقسد وتيار الهجري تهدف لتقسيم سورية منذ ماقبل سقوط النظام البائد وحتى الآن , أما لماذا ولصالح من جرت إماطة اللثام عن تلك العلاقة القديمة بين الأطراف الثلاثة فذلك أمر آخر .
ودعونا نترك قصة لماذا ولصالح من قليلا , فما كشفته الواشنطن بوست يفسر العناد الهجري في رفض أي مبادرة من جهة الدولة السورية , والاستمرار في مهاجمتها وتبني خطاب عدائي متطرف إلى حد فاق كل حدود , عداء وصل الى حد مهاجمة المحافظ في مقره وتهديده وطرده من السويداء بدون سبب , أي إهانة الدولة السورية بإهانة من يمثل رئيس الدولة مباشرة في المحافظة , ثم إهانة علم الثورة السورية , وشطبه من كل الاجتماعات العامة , ورفع علم اسرائيل , وكل ذلك جرى قبل أحداث السويداء في تموز الماضي , كما يفسر مراوغة قسد وعنادها وعدم جديتها في التوصل لحل سلمي , فالمسألة بالنسبة لها كانت مجرد كسب الوقت ريثما يجري الاستعداد لاشعال تمرد متزامن بين فلول النظام في الساحل وقسد والهجري بدعم اسرائيلي ينتهي بتفكيك الدولة السورية الجديدة لصالح دويلات ثلاث برعاية نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة .
وضمن هذا السيناريو ساهمت اسرائيل منذ سقوط النظام بتدمير ماتبقى من الامكانات العسكرية لسورية واحتلال أجزاء إضافية والتمدد باتجاه دمشق . لكن وبعد سنة من سقوط النظام البائد يبدو ذلك السيناريو أبعد من أي وقت مضى عن التحقق في الواقع , والسبب ليس فقط في التحركات السياسية الذكية للقيادة السورية التي أقنعت الغرب بأن سورية مستقرة هي ضمان استقرار المنطقة , وأن انهيار الدولة السورية يعني انهيار استقرار سورية وانتشار الفوضى والحروب الأهلية وفتح الباب أمام داعش وأمام حزب الله وايران لاستعادة نفوذهم داخل سورية في حين ظهرت الدولة السورية كدولة عاقلة ومسؤولة وايجابية في التعامل مع الجميع . لكن أيضا بسبب هام للغاية يكمن في توازنات القوى الاقليمية الجديدة التي وضعت اسرائيل في مواجهة تركيا بعد أن استطاعت اسرائيل توجيه ضربات قاصمة لحزب الله ولايران ذاتها وبالتالي أخرجتها من معادلة توازن القوى في المنطقة أقلها لعدة سنوات قادمة .
فتركيا ليست قوة اقليمية يستهان بها , صحيح أن الغرب يقف خلف اسرائيل باستمرار ولايمكن نسيان ذلك , لكن الغرب اليوم ليس بالغرب المتفرد بالهيمنة على نطاق العالم , والنتيجة التي آلت إليها حرب اوكرانيا التي أصبحت على وشك الاستسلام أمام الروس تعكس بوضوح ليس هزيمة أوكرانيا وحدها ولكن هزيمة الغرب كله بمن فيهم الولايات المتحدة مهما حاولت التنصل من أعباء الهزيمة ورميها على حلفائها الأوربيين , وصعود الصين العسكري والسياسي أصبح واقعا ولم يعد مجرد تقديرات واحتمالات مستقبلية .
ربما لم يفهم رجل مثل نتنياهو حتى الآن معنى التغييرات التي طرأت على موازين القوى العالمية , والنتيجة أن اسرائيل تدفع الثمن من سمعتها العالمية ومن رأي عام أمريكي لم يعد مواليا لها بطريقة عمياء .
ليست اسرائيل مستعدة لمواجهة تركيا , وربما تركيا لاتريد مثل تلك المواجهة , لكن تركيا لن تسمح لاسرائيل بالهيمنة على سورية , وهي مستعدة لمواجهتها حين يقتضي الأمر .
تفكيك الدولة السورية سوف يضع اسرائيل التي تخطط وتدعم الحركات الانفصالية في سورية في مواجهة مباشرة مع تركيا وليس مع الدولة السورية فقط , وهذه هي كلمة السر في تراجع اسرائيل عن دعمها لتلك الحركات ليقتصر على الضغط على الدولة السورية لتحصل على أفضل مايمكن الحصول عليه في طاولة المفاوضات الحالية .
الغرب ليس مستعدا لخسارة تركيا في مواجهة روسيا والصين , ولذا فهو لايريد تفاقم التوتر بين اسرائيل وتركيا , وهذا يوصل لدعم الدولة السورية الجديدة .
ضمن التوازنات الاقليمية والدولية الراهنة لن تذهب الولايات المتحدة ولا أوربة لحماية قسد والدفاع عنها بعد أن أصبحت مجرد فائض يجلب عدم الاستقرار لافائدة منه .
لكن قيادات قسد مازالت تظهر كل الدلائل على انفصالها عن الواقع , ومثلها الهجري الذي يحلم بباشانه الممتدة حتى حدود العراق .
ومن يستسلم لأحلامه وينسى الواقع سوف يدفع الثمن غاليا , لكن ماذا عن الأبرياء الذين صدقوا زعماءهم ومشوا وراءهم نحو المجهول . كان الله في عونهم .
قبل ان انتهي أعود للسؤال لماذا الآن ولصالح من نشر غسيل الانفصاليين الوسخ في واحدة من أعرق الجرائد الأمريكية .
ربما لأن الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية وليس فقط إدارة ترامب باتت مقتنعة بخطورة لعب اسرائيل بالداخل السوري , وأن نتنياهو لايعرف تماما ماذا يفعل وأي عواقب يمكن أن يسببها انهيار الدولة السورية الجديدة ليس على سورية ولكن على المنطقة كلها .
وهناك سبب آخر , فيبدو أن الغرب بات مقتنعا بفشل محاولات تقسيم سورية , بالتالي لم يعد يتعامل مع تلك المحاولات سوى كتاريخ انتهى , تماما مثلما تميط الدول اللثام عن الوثائق العائدة لزمن قديم باعتبار أن علاقته بالواقع أصبحت مجرد تاريخ .






