
إن سؤال “ماذا لو انتصرت منظومة الأسد وسرديته ؟” لا يمثل مجرد افتراض سياسي، بل يفتح نقاشاً أوسع حول آليات إنتاج التاريخ في لحظات الصراع، وكيف تستطيع السلطة إذا استمرت دون تنافس أو مساءلة إعادة صياغة الماضي بما يخدم احتياجاتها الاستمرارية. فالتاريخ في السياق المعاصر لم يعد محصوراً في عملية توثيق محايدة، بل بات نتاجاً لصراعٍ بين سرديات متعددة، تتنافس على تمثيل الواقع وتفسيره، وتطمح إلى أن تكون المرجعية التي يُبنى عليها الوعي الجمعي.
وفي الحالة السورية، كان انتصار السلطة الغاشمة سيعني بالضرورة احتكار عملية كتابة التاريخ، عبر مؤسسات الدولة التعليمية والإعلامية والثقافية، وإعادة إنتاج زمن الثورة ضمن إطار أمني سياسي يهدف إلى تثبيت شرعية النظام المستبد وإلغاء أي مشروعية للاحتجاجات الشعبية والثورة التي انطلقت عام 2011. فلو تحقق هذا السيناريو الكامل، لكانت الوثائق الرسمية، والمناهج الدراسية، والإنتاج الفني بما يملك من أدوات ، قد أعادت تأطير الثورة كحدث تخريبي، مع تقليص أو إلغاء كل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي قادت المجتمع السوري إلى الانفجار.
وفي الحالة السورية، كان انتصار السلطة الغاشمة سيعني بالضرورة احتكار عملية كتابة التاريخ، عبر مؤسسات الدولة التعليمية والإعلامية والثقافية
هذا النموذج ليس استثناءً في التاريخ السياسي العالمي؛ فالكثير من الأنظمة حين تستعيد المبادرة بعد مرحلة اضطراب تعمل على تعديل السردية العامة بما يتسق مع رؤيتها. وتقدم الفلبين مثالاً واضحاً، حيث تمكنت الدعاية السياسية من إعادة تقديم إرث “فرديناند ماركوس الأب” بصورة إيجابية بعد عقود من سقوطه، ما مهد لعودة ابنه إلى السلطة بعد أربع عقود من سقوط حكم والده . هذا التحول لم يكن نتيجة قوة سياسية فقط، بل نتاج ضعف في منظومة الذاكرة الوطنية وانقطاع في عملية التوثيق لانتهاكات نظام الأب . ومن هذا المنظور، يتضح أن المخاطر التي تهدد السردية السورية لا ترتبط فقط بانتصار طرف على آخر، بل بقدرة المجتمع على حماية مصادر المعرفة ومنع تشويهها، خاصة في ظل تعدد القوى الفاعلة ووجود أطراف محلية وإقليمية ودولية تمتلك القدرة على فرض قراءاتها الخاصة في ظل هذا المناخ السياسي الجديد.
حفظ الذاكرة
وتبرز هنا الحاجة إلى منظومة توثيق وطنية، منهجية ومؤسسية، تعتمد المعايير العلمية لحفظ الأدلة والوثائق والشهادات، وتمنع التعامل العشوائي معها أو تحويلها إلى مواد خطابية تُستهلك في الفضاء الإعلامي. لأن حفظ الذاكرة التاريخية لا يمكن أن يُترك للمبادرات الفردية مهما كانت أهميتها، بل يجب أن يكون جزءاً من عمل مؤسسات رسمية وهيئات مهنية مختصة، تمتلك القدرة على إدارة الأرشيف وفق قواعد علمية، وضمان استمراريته وحياده وحمايته من التلاعب. وتشمل هذه العملية بناء أرشيف رقمي وورقي، تأمين مستودعات حفظ متخصصة، تدريب كوادر في علوم التاريخ والتوثيق والعدالة الانتقالية، ووضع بروتوكولات تمنع تسريب المواد أو التحكم بها من جهات خارجية مهما كانت صفتها. فالتاريخ، في السياق السوري، ليس ملكاً لسردية سياسية بعينها، بل ملك لحق المجتمع والشعب الذي مات في سبيل أهدافه لمعرفة حقيقة ما حدث.
كما أن عملية صون الذاكرة يجب ألا تكون انتقائية، وألا تقتصر على توثيق انتهاكات طرف دون آخر. فالعدالة التاريخية لا يمكن أن تستقيم إن لم يتم تسجيل كل الوقائع والانتهاكات والجرائم مهما كانت الجهة التي ارتكبتها، لأن الثورة في معناها العميق لا تحقق أهدافها إلا عندما يصبح القانون معياراً مطبقاً على الجميع دون استثناء، وعندما يُعامل كل من ارتكب جريمة، أيّاً كانت جهته أو دعواه، بوصفه منتهكاً لا حامياً أو مقاوماً أو يحمل مسميات أخرى وهذا النوع من التوثيق الشامل يرسّخ مبدأ المسؤولية الفردية، ويحرر الثورة من القراءة الدعائية، ويمنح المجتمع نموذجاً حقيقياً للعدالة الانتقالية القابلة للتطبيق وليست المتداولة في الورقات البحثية والتي تكون حتى قرأتها مرهونة بالأكاديميين فقط .
الهولوكوست السوري
إضافة إلى ذلك، فإن حجم الانتهاكات التي شهدتها سوريا خلال السنوات الماضية يرقى من حيث الاتساع والانتظام والزمن إلى مستوى الجرائم الكبرى في التاريخ الحديث، وهو ما يجعل مقارنته بالهولوكوست أو الإبادات الواسعة أمراً وارداً ومنطقياً من منظور حقوقي وتاريخي لا من منظور سياسي أو شعاراتي. فوجود مراكز اعتقال تحولت إلى مواقع موت ممنهج، ومناطق تعرضت لدمار كامل، وتهجير قسري ممنهج، يجعل مسؤولية الدولة والمجتمع مضاعفة في حفظ هذه المواقع وتحويلها إلى معالم ذاكرة، تُعامل كمؤسسات تربوية ومعرفية تتيح للأجيال المقبلة فهم حجم المأساة، تماماً كما تحولت معتقلات النازية، ومعسكرات الإبادة في أوروبا، ومعالم رواندا وكمبوديا، إلى متاحف تحفظ الدرس الإنساني وتمنع تكرار الكارثة. إن تحويل أماكن الانتهاكات الكبرى في سوريا إلى معالم ثورية ومعاهد للبحث والتعليم ليس فعلاً رمزياً فقط، بل خطوة ضرورية في بناء مجتمع قادر على مواجهة تاريخه بصدق.
إنتاج معرفة بحثية مستقلة
إن أحد التحديات الكبرى في إدارة الذاكرة السورية أيضاً يتمثل في غياب منظومة بحثية” مستقلة ” قادرة على دراسة أحداث العقود الماضية ضمن إطار علمي، بعيد عن التوظيف السياسي والانفعالات اللحظية. فالمعرفة المنتجة حول الثورة ما تزال مشتتة بين تقارير حقوقية ومشاهدات فردية ودراسات جزئية، الأمر الذي يجعل الحاجة ماسة لإنشاء مراكز بحثية سورية متخصصة تستمد دعمها من الدولة تتولى دراسة الثورة بأبعادها الاجتماعية والسياسية والقانونية. إن وجود هذا النوع من المؤسسات يسمح بتأسيس “معرفة وطنية” محكمة، لا تعتمد على روايات انتقائية، بل على أدوات تحليلية متقدمة ومنهجيات تفكيك للوقائع تضمن إدماج كل الأصوات، بما فيها أصوات الفئات المهمشة التي لم يُتح لها التعبير بشكل كافٍ أثناء سنوات الثورة. ومع مرور الزمن يمكن لهذه المعرفة الأكاديمية أن تتحول إلى أساس لمناهج مدرسية وجامعية تعيد شرح ما حدث على نحو موضوعي، فلا تبقى الثورة حدثاً معلقاً بين التعاطف والتشويه، بل تصبح تجربة تاريخية موثقة وفق معايير العلوم الاجتماعية الحديثة
الذاكرة كجزء من إعادة بناء الدولة
التعامل مع الذاكرة جزءاً أساسياً من عملية إعادة بناء الدولة في مرحلة ما بعد النزاعات، إذ أثبتت تجارب جنوب أفريقيا ورواندا وتشيلي أن أي مشروع سياسي يسعى إلى تأسيس دولة مستقرة لا يمكن أن ينجح دون معالجة دقيقة للماضي. فالذاكرة الجماعية ليست ترفاً ثقافياً، بل هي بنية من البنى المؤسسية التي تُحدد طريقة تفاعل المجتمع مع مؤسساته، وتُؤثر على مستويات الثقة بين المواطنين، كما تُشكّل إطاراً للتشريع والمساءلة في المستقبل. لذلك فإن تطوير سياسات عامة تعنى بالذاكرة السورية تشمل الأرشفة القانونية، وتصميم برامج العدالة الانتقالية، وتوثيق قصص الضحايا، وتحديد أماكن الجرائم يشكّل خطوة ضرورية ضمن عملية إعادة الإعمار السياسي والاجتماعي. وعندما تصبح الذاكرة جزءاً من مؤسسات الدولة، فإنها تتحول إلى عنصر لإنتاج الاستقرار لا إلى مادة للصراع، وتصبح الثورة من حدث مؤلم إلى محطة تأسيسية يُبنى عليها مستقبل يضمن عدم تكرار المأساة.
وعند جمع هذه العناصر كلها، يصبح من الواضح أن الثورة لا تحصد ثمارها الأخلاقية والسياسية بمجرد إسقاط نظام أو تغييره، بل عندما تنجح في صياغة سردية دقيقة، شاملة، متعددة المصادر، تضع كل الانتهاكات على الطاولة، وتتعامل مع جميع الفاعلين وفق معيار موحد، وتحوّل أماكن الألم إلى محطات معرفة. عندئذ فقط تُكتب الثورة كتاريخ موضوعي، وتتحول الذاكرة إلى ركيزة لاستقرار مستقبلي، ويُعامل المجرمون كمنتهكين للقانون بغض النظر عن انتماءاتهم، وتصبح العدالة لا القوة هي من يحدد من يُكتب اسمه في صفحات التاريخ وكيف يُكتب.
المصدر: تلفزيون سوريا






