هل يصبح البحر الأسود أحمر؟

جيرار ديب

قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن “الحرب بين روسيا وأوكرانيا تهدد سلامة الملاحة في البحر الأسود، ولا يمكننا بأي حال من الأحوال تبرير استهداف السفن في منطقتنا الخاصة. يوم الجمعة (2 ديسمبر/ كانون الأوّل الجاري)، كان هناك تصعيد يدعو للقلق، ولا يمكننا التغاضي عن هذه الهجمات”. وكانت تركيا قد أبلغت الأجهزة الأمنية الأوكرانية بموقفها الحازم إزاء الهجمات على السفن في البحر الأسود، وفق ما أفاد به مصدر رسمي رفيع المستوى في أنقرة لوكالة نوفوستي، بعد إعلان هيئة الملاحة البحرية التركية أن ناقلة نفط روسية محمّلة بزيت عبّاد الشمس تعرضت لهجوم في البحر الأسود، من دون تسجيل حاجة إلى طلب المساعدة.
ورغم الانزعاج التركي والقلق الروسي من التصعيد الأوكراني في البحر الأسود، باعتبار أن مثل هذه الهجمات تشكّل هاجساً حقيقياً لكليهما، تبنّت أوكرانيا، الأربعاء 10 يناير، هجومًا بالمُسيَّرات البحرية على ناقلة نفط روسية جديدة في البحر الأسود، وفق ما أفاد به مصدر أمني، متّهماً السفينة بأنها جزء من “الأسطول الشبح” الذي تستخدمه موسكو للالتفاف على العقوبات. وأفادت وكالة فرانس برس، بأن مُسيَّرات بحرية أوكرانية هاجمت الأربعاء ناقلة النفط “داشان” التابعة للأسطول الشبح لروسيا الاتحادية في البحر الأسود.
في الشكل، هناك إصرار أوكراني على الاستمرار في سياسة ممارسة “أقصى” الضغط على روسيا، لحثّها على التنازل عن شروطها في شأن المفاوضات المقبلة مع أوكرانيا برعاية أميركية. إذ اعتبر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن حكومته لا صلاحية لها لتقديم أي تنازل عن أراضٍ أوكرانية لصالح روسيا، حتى لو ورد ذلك في خطّة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
تعتبر تركيا أن منافذها على البحر الأسود تشكّل الامتداد الاستراتيجي الطبيعي لأمنها الاقتصادي والقومي
ليس زيلينسكي وحيداً في هذا الاتجاه، فهناك أيضاً اتحاد أوروبي يقف إلى جانبه، ويؤيّد فكرة عدم إعطاء نصر لروسيا في هذه الحرب، لأن ذلك سينعكس مباشرة على علاقة بروكسل مع موسكو، ما يضع مستقبل القارة أمام أحلام سيّد القصر في موسكو وطموحاته. ولهذا برز الشرخ بين الأوروبي والأميركي في شأن أوكرانيا، وتصاعد ليصل بأحد أعضاء الكونغرس الجمهوريين، توماس ماسي، إلى التأكيد على أنه قدّم مشروع قانون يدعو إلى انسحاب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي (ناتو). ويأتي هذا التحرّك في إطار مواقف ماسي المعروفة بانتقاداته للسياسات الخارجية لبلاده والتزاماتها العسكرية خارج الحدود.
تصعيد على مختلف الجبهات، ولا سيّما ميدانياً، حيث تستعر نار الحرب بين تأكيد روسي على احتلال أراضٍ في العمق الأوكراني، وبيانات من الجيش الأوكراني تنفي تلك المزاعم. لكن ما هو مؤكّد أن الحرب في شرقي أوكرانيا أخذت خيارات مختلفة، منها استنساخ حالة الحوثيين في البحر الأحمر، بعدما فرضت هذه الحركة حصاراً بحرياً على موانئ إسرائيلية، ما ضاعف ليس فقط أزمات تل أبيب الاقتصادية، بل أيضاً سرّع الوسيط المصري وتيرة التفاوض لفرض حالة من الاستقرار ووقف الحرب على غزّة، التي عانى اقتصادها ما عاناه من تراجع في الإيرادات نتيجة التأثير على حركة الملاحة عبر قناة السويس.
تستنسخ أوكرانيا في حربها ضدّ روسيا حالة الحوثيين في البحر الأحمر
تعتبر تركيا أن منافذها على البحر الأسود تشكّل الامتداد الاستراتيجي الطبيعي لأمنها الاقتصادي والقومي. فهي عملت على ضمان هذه الرقعة الجغرافية ووضعها في منأى عن الصراع الروسي ـ الأوكراني للحفاظ على مصالحها. ولهذا شكّلت أنقرة نقطة تواصل بين موسكو وكييف، ورغم عدم التوصل إلى تسوية، فإن مسعاها مستمرّ، وخوض المعركة الدبلوماسية قائم ولا مجال لتوقيفه، خصوصاً مع ارتفاع وتيرة التهديد الأمني للسفن النفطية، وقد يشهد انتقالاً لاحقاً ليطاول السفن التجارية، كما حصل في البحر الأحمر. وهنا ستنشأ مشكلة متفاقمة ومزدوجة عند التركي كما عند الروسي، في ظلّ براعة الجيش الأوكراني في إنتاج مثل تلك المُسيَّرات.
هي حرب تحتاجها أوكرانيا على الطريقة الحوثية، وتريدها لأكثر من سبب، خصوصاً أنها تدرك أن ضرب “أسطول روسيا الشبح” سيؤثّر حتماً في موازنة الحرب لديها، ما قد يضع موسكو أمام إشكالية التعاطي معها من دون القدرة على الحدّ منها أو توقيفها. فالنموذج الحوثي كان فعّالاً وشكّل مثالاً يُحتذى به لدى الأوكرانيين. فرغم الضربات المستمرّة من إسرائيل على المناطق الحيوية والعسكرية، وحتى المدنية للحركة، ورغم تفعيل أميركا وبريطانيا عملية “حارس الازدهار”، التي اعتُبرت، بحسب وكالة أسوشييتد برس، الأعنف منذ الحرب العالمية الثانية، إلا أنها لم تمنع الحوثي من الاستمرار في تنفيذ الضربات تجاه إسرائيل، بل انتهت باتفاق حوثي ـ أميركي.
هذا ما تريده، على ما يبدو، كييف: ضرب ناقلات النفط، وقد تمتدّ العمليات إلى موانئ أخرى من العالم، كما حصل مع تلك الناقلة التركية المرتبطة بمصالح روسيا، التي تعرضت لهجمات أوكرانية قبالة سواحل السنغال أخيراً، وهو ما بات يثير قلق روسيا، التي كسرت قرار الحياد لتعبّر عن دعمها المطلق لفنزويلا، رئيساً وشعباً، في وجه التهديدات الأميركية، الأمر الذي يجعل الروسي والأميركي في لعبة شدّ الحبال إلى حين تتجلّى المشهدية في إعلان المُنتصِر.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى