
لم تكن الحقيقة يوماً مرجعاً أخلاقياً عند أغلب الساسة، واليوم زادت هذه الظاهرة تفشياً فأصبح الكذب السياسي هو اللغة الأكثر تداولاً في خطاب السلطة والساسة المهيمنين وأصحاب القرار، حيث لم يعد الكذب فعلاً عرضياً يطرأ على السلوك السياسي، بل صار بنيةً من بنياته الجوهرية، وآليةً لإنتاج واقع مزيف. لقد تحوّل الفعل السياسي، في كثير من السياقات والأحداث، إلى مسرحٍ واسع ينتصر فيه الكذب الفج على الحقيقة الساطعة، والخداع على الاستقامة، حتى صار السؤال عن الحقيقة سؤالاً ميتافيزيقياً وسؤالاً عن الوجود نفسه في عالم تُصاغ وقائعه في غرفٍ مغلقة، ويُعاد بثّها على الجماهير كحقائق مطلقة لا تقبل الشك.
تقول حنة آرندت في “الحقيقة والسياسة”: “إن قصة النزاع بين الحقيقة والسياسة قديمة ومعقدة، ولن نظفر بأي شيء من وراء تبسيطها، أو الشكوى الأخلاقية منها… إنها (الحقيقة)على الدوام عرضة لخطر التلاعب بها لتنحيتها من العالم، ليس بصورة مؤقتة فحسب ،بل ربما إلى الأبد”. ويذهب جاك دريدا في كتابه “تاريخ الكذب” إلى العمق الفلسفي لمسألة الكذب حين يقول مستنداً إلى أرسطو: ” بأن الكذاب ليس فقط هو الذي يملك القدرة على الكذب، بل هو الذي يميل إلى الكذب … ويأت به عن قصد. “هنا لا يكون الكذب مجرد مخالفةٍ للحقيقة، بل ممارسةً مقصودة، تنطوي على وعيٍ مزدوج: معرفة الحقيقة من جهة، وإرادة إنكارها من جهة أخرى. هذا التواطؤ الداخلي بين المعرفة والإنكار هو ما يجعل الكذب السياسي أكثر تعقيداً من الكذب الفردي؛ إذ إن السياسي لا يكذب عن جهل، بل عن إدراكٍ استراتيجي، وعن قصدٍ مؤدلج. لذلك نرى أن الكذب عند دريدا ليس مجرد انحرافٍ عن الحقيقة، بل هو “فعل القول” ذاته، بما يحمله من نيةٍ وبنيةٍ لغوية تقلب المعنى رأساً على عقب.
وإذا كان دريدا قد تحدث عن البنية الفلسفية للكذب، فإن جون ميرشايمر قد ناقش بعده السياسي الواقعي في كتابه “لماذا يكذب القادة والزعماء؟، حقيقة الكذب في السياسة الدولية” حين بيّن أن الكذب في السياسة الدولية ليس استثناءً بل هو القاعدة غير المعلنة التي تُدار بها شؤون العالم. فالسياسيون، كما يرى، لا يكذبون فقط لإخفاء خطأ أو لتجميل صورة، بل لأن الكذب هو أحد أدواتهم الأساسية للحفاظ على السلطة أو تحقيق المصلحة القومية. وهكذا، حين كذب جورج بوش الابن وإدارته على الشعب الأميركي بشأن أسلحة الدمار الشامل في العراق، لم يكونوا ينحرفون عن مسارٍ أخلاقي فحسب، بل كانوا يمارسون وظيفةً سياسية تقليدية تمجّد المصلحة على الحقيقة. الأمر نفسه فعله روزفلت وجونسون من قبل، كما يشير ميرشايمر، حين استدعوا الأكاذيب لتبرير الحروب أو لتضليل الرأي العام.
وتأكيداً لمقولة كذب السياسيين وقلب الحقائق يأتي ميرشماير بهذا المثال من تاريخ الإبادة في فلسطين والذي يتكرر على لسان نتنياهو وحكومته لقلب الحقائق وتبرير الإبادة الجماعية في غزة اليوم وكأن التاريخ يعيد نفسه بأكثر بؤساً ومرارة:
“في الرابع عشر من تشرين الأول، أكتوبر، 1953 دخلت قوة من الكوماندوز بقيادة الرائد آرييل شارون إلى قرية القبيات في الضفة الغربية، وقتلت تسعاً وستين فلسطينياً، كان ثلثهم تقريباً من النساء والأطفال…. لقد كانت الأوامر من القيادة المركزية لإسرائيل، والتي أشرفت على الغارة، تنص بأن الهدف كان “الهجوم على قرية قبيات واحتلالها بشكل مؤقت، وقتل أكبر عدد ممكن بهدف ملاحقة السكان وطردهم من بيوتهم…..شهد العالم موجة احتجاج عارمة، بما في ذلك الجالية اليهودية الأميركية،…. وبعد أن أدرك القادة والزعماء الإسرائيليون المتاعب الأخرى التي ستلحق بهم في الجبهة الداخلية، إضافة إلى الضرر الذي لحق بمكانة إسرائيل الدولية، فقد حاولوا إنقاذ الحالة عبر الكذب” وخرج رئيس وزراء إسرائيل بن غوريون وقال: “ترفض حكومة إسرائيل بكل قوة الادعاء الغريب واللا معقول بأن ستمئة رجل من قوات الدفاع الإسرائيلية قد شاركت في العمل” … لكن كذب بن غوريون لم يفلح. وفي الرابع والعشرين من تشرين الثاني، نوفمبر، أصدر مجلس الامن قراراً يعبر عن ” انتقاده واستهجانه القوي لذلك العمل” وكان هذا القرار دليل اعتراف مجلس الامن بتأكيد الحادثة وأن بن غوريون كان يكذب.
وفي سياق هذا الكذب الممنهج يضع ميرشماير يده على الجرح ويبين أن قلب الحقيقة وادعاء الصهاينة عدم ارتكابهم مجازر وتطهير عرقي في فلسطين هو كذب حيث بين أساس الرؤية الصهيونية لكيفية التعامل مع الشعب الفلسطيني وقضيته فيقول “لم تكن هناك طريقة يستطيع فيها الصهاينة تأسيس وإقامة دولة يهودية في فلسطين من دون القيام بتطهير عرقي واسع النطاق للسكان العرب الذين كانوا يعيشون هناك لقرون.
لقد أدرك القادة الصهاينة هذه النقطة بشكل جيد قبل أن تؤسس إسرائيل بزمن طويل…ليس غريباً أن لجأت إسرائيل وأصدقاؤها الأمريكيون إلى أبعد الحدود عند اندلاع أحداث عام 1948 لوضع الملامة في طرد الفلسطينيين على الضحايا أنفسهم.” وهذا ما يكرره السياسيون المهيمنين اليوم وعلى رأسهم السياسيون الامريكان وأغلب السياسيين الأوروبيين حيث يُعدون الابادة الجماعية في غزة دفاعاً عن النفس.
في هذا العالم الذي تُدار فيه القرارات الكبرى بالكذب الممنهج، يغدو وكأن القول الصادق عملاً دون جدوى سياسية. وهذا ما تعبر عنه حنة آرندت، في نصها “الحقيقة والسياسة”، لتؤكد أن الكذب ليس طارئاً على الفعل السياسي، بل هو من صميمه. فالحقيقة، تفتقر بطبيعتها إلى القوة، والسياسة لا تحتمل الثبات الذي تفرضه الحقيقة، لأنها تتحرك في فضاء المصالح والاحتمالات. وحين تصطدم الحقيقة بالسياسة، فإن الأخيرة تنتصر في الغالب، لأن الحقيقة لا تمتلك جيشاً ولا سلاحاً ولا وسائل دعاية. ما تملكه فقط هو حضورها الصامت، حضور يذكّرنا بأن ما نراه ليس سوى صورة مشوهة للواقع، ولم يعد الكذب يُختبر في قدرته على إخفاء الحقيقة، بل في قدرته على صناعة واقعٍ بديلٍ مقنعٍ أكثر من الحقيقة نفسها.
هذا التحول يجعل الكذب الحديث أكثر فاعلية من أي وقتٍ مضى: فهو لا ينكر الواقعة فحسب، بل يعيد إنتاجها ضمن سردية جديدة، حتى يغدو من الصعب التمييز بين الأصل والظل، بين الحدث وصورته. وفي هذه النقطة تحديداً يلتقي تحليل آرندت مع بصيرة دريدا، حين يرى مستنداً إلى “ميشيل دو مونتين” أنه لو كان للكذب – كما هو شأن الحقيقة – وجه واحد لكانت الأمور بخير، فيكفى أن نقول نقيض الكذب لتكون الحقيقة . إلا أنّ نقيض الحقيقة له مئة ألف وجه ولا يمكن الإلمام كلياً بالحقل الذي يشغله، فالحقيقة واحدة، أما الكذب فمتعدد ومتجدد، لا نهائيّ الوجوه، قادر على التكيف مع كل ظرفٍ ومصلحة.
بهذا المعنى، الكذب السياسي المعاصر لم يعد مجرد وسيلةٍ لحجب الواقع، بل غدا عمليةً خلاقة لإنتاجه. فالإعلام الرسمي، والمراكز البحثية المموّلة، والخطابات الدبلوماسية، جميعها تساهم في بناء سرديةٍ متكاملة تُقنِع الجماهير بأن الزيف هو الحقيقة الوحيدة الممكنة. وهكذا تتحول الديمقراطيات إلى أنظمةٍ خطابيةٍ محكمة، حيث يصبح التلاعب بالوقائع فناً من فنون الحكم. ولعلّ المفارقة الكبرى، كما لاحظ ميرشايمر أن الدول الديمقراطية تمارس الكذب بفعاليةٍ أكبر من الأنظمة السلطوية، ويمكنها أن تسوق لحروب وتدعم دكتاتوريات وتبرر جرائم إبادة جماعية بسهولة لأنها تمتلك آلياتٍ مؤسساتية لصناعة الشرعية، تجعل الأكاذيب تمر عبر قنواتٍ قانونية وإعلامية تُضفي عليها طابعاً من المصداقية.
هذه البنية المركبة للكذب السياسي تكشف عن مأزقٍ أخلاقي وفلسفي عميق: كيف يمكن للإنسان المعاصر أن يميّز بين ما هو واقعي وما هو مصطنع؟ كيف يمكنه أن يؤمن بالحقيقة في زمنٍ تُدار فيه الحقائق عبر مؤسساتٍ متخصصة في صياغة الرواية الرسمية وإعادة رسم الواقع على هواها؟
تقول آرندت في هذا السياق”لهذا السبب فإنّ الكذب المتماسك والمتسق يسحب، بتعبير مجازي، الأرض من تحت أقدامنا دون أن يمنحنا أرضاً أخرى لنقف عليها.”
وإذا كانت آرندت ترى أن الحقيقة تظل دائماً مهددة بالطمس أمام سطوة السياسة، فإنها تؤكد أيضاً أن الحقيقة لا يمكن تدميرها كلياً. يمكن قمعها، تحريفها، تأجيلها، لكن لا يمكن استبدالها. تقول: “مهما استطاع أصحاب السلطة أن يخترعوا ويحتالوا، فإنهم عاجزون عن اكتشاف أو اختراع بدلٍ للحقيقة قادر على البقاء. في وسع الإقناع أو العنف تدمير الحقيقة، لكن لا يمكن لهما أن يعوضاها. يصدق ذلك على الحقيقة العقلية والدينية مثلما يصدق بصورة أوضح على حقيقة الواقع”. وهذا ما يمنح السياسة بعداً تراجيدياً عميقاً؛ إذ إنها تعيش في صراعٍ دائمٍ بين رغبتها في السيطرة وبين هشاشتها أمام الوقائع.
لقد أصبح الكذب في عالم اليوم شذوذاً معرفياً قائماً بذاته، يحكم علاقة الإنسان بالعالم. إننا نعيش في زمنٍ تُدار فيه الحروب باسم السلام، ويُقمع فيه الناس باسم الحرية، وتُمارس فيه الهيمنة باسم القيم، وتدار حروب الإبادة باسم الدفاع عن النفس. هذه المفارقات ليست سوى الشكل المتأخر للكذب السياسي الذي تنبّه له الفلاسفة باكراً، لكنه اليوم تجاوز مستوى الخطاب إلى مستوى البنية الواقعية للعالم. فالاقتصاد، والإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، والذكاء الاصطناعي، كلّها تشارك في إعادة إنتاج الأكاذيب الكبرى التي تنظم حياتنا اليومية. لقد صار الكذب آلية عالمية لحرف المعنى. وهذا هو التحدي الوجودي لعصرنا. فحين يعم الكذب وتصبح الحقيقة صعبة المنال، يفقد الإنسان مرجعيته الأخلاقية وتغدو ذاته قابلة للتشكّل بحسب الخطاب السائد. هنا تبرز الحاجة إلى المعرفة لا كبحثٍ في المعنى فقط، بل كموقفٍ مقاومٍ ضد التزييف، ضد تدمير اللغة والذاكرة، ضد تحويل العالم إلى عرضٍ مستمرٍّ من الأكاذيب.
إن مقاومة الكذب ليست استعادة للحقيقة فحسب، بل هي دفاع عن شرط الإنسان في أن يكون كائناً قادراً على التمييز بين الصدق والكذب، لا مجرد متلقٍّ للصور والبيانات. وبما أن الكذب متعدّد الوجوه، فإن مهمة الفكر تظلّ هي التعرّف على هذه الوجوه، لا لفضحها فحسب، بل لفهم البنية التي أنتجتها، ويظل الأمل الوحيد في أن يعيد الفكرُ للغة صدقها الأول، وأن يُعيد للسياسة وعيها الأخلاقي بأن الحقيقة، مهما كانت ضعيفة، تظلّ أكثر واقعية وديمومة من كل الأكاذيب.
المصدر: تلفزيون سوريا






