
يبدو أن تلك الليالي العشر التي بزغ إثرها أعظم فجر في تاريخ سوريا الحديث لم تكن حكراً على أواخر تشرين الثاني ومطلع كانون الأول من العام 2024، بل يبدو أنها عشر ليال ترسخت في قاموس فرح السوريين ووُثّقت في دستور حريتهم تحت بند: “ليالي النصر”.
فتلك الأيام نداولها بين الناس، وتلك الليالي وبكل يقين ستتكرر في كل عام، واليوم نستطلع كيف أبدع السوريون في تكرارها للمرة الأولى.
لم يكفنا صوت أو صوتين أو عشرة أو ألف لندعم بها ما كتبنا، فأصوات السوريين جميعاً كانت في الساحات تشبه بعضها ولا صوت يزيد على الآخر. لذا فقد آثرنا قراءة جانب من تلك الأصوات بأعيننا التي عاشت وراقبت وفرحت ليالي التحرير كما عاشوها.
أول فسيفساء نصر تُرسم في ساحات دمشق
رغم الساعات الطويلة ورغم البرد، لا جوع ولا عطش ولا تعب ولا شعور بالبرد أو الخوف، مشاعر مختلفة تشبه الحالة المختلفة التي يعيشها سوريون وليدو عصرَ نصرٍ بنوه بدماء شهدائهم وآلام معتقليهم وتشردهم وفقدهم وعذاباتهم سنين طوال.
يجوبون شوارع دمشق حاملين لافتاتهم وأعلامهم بين الحافلات، يركضون لا أحد منهم يقصد هدفاً، بل الجميع يسير مع الجميع إلى حيث تأخذهم الأقدام. لن يبحثوا طويلاً عن الفرح، فالفرح عمّ وانتشر حتى بين الأزقة الضيقة. أصحاب السيارات والحافلات مبتهجين متمهّلين على غير عادتهم. الآباء رغم شعورهم بالضيق أحياناً في نُزه أطفالهم الطويلة.. لم يكونوا كذلك اليوم، بل كانوا صبورين.
المارة يقطعون طرقات السائقين والسائقون يتغلبون على المارة أحياناً ولا طرف يتذمر على الآخر. الجميع يحمل حباً لا حدود له للجميع. هكذا فرح السوريون وهذه عجائب فرحهم.
أمهات في الساحة
أم شهيد تجلس في الساحة تبكي فقيدها الذي حملت صورته، وأخرى مسنّة تبكي مطبطبة كفيها متحسرة على الخسران الكبير حين يصدح منشد جاء من حلب بـ”عتابا” أهداها للشام وأهلها بدأها بحسرة على الشهداء. كفكفت دمعتيها ورقصت بعنفوان منقطع النظير ما أن سمعت “ارفع راسم فوق أنت سوري حر”.
مقابل هاتين تربعت أم أخرى مع أولادها على أحد الأرصفة وأوقدت غازها السفري على إبريق شاي أصفر تلألأ وأضاء ما حوله كالألعاب النارية التي علا ضوؤها سماء دمشق، وجلست مع عائلتها تتناول بعض التسالي وتزغرد وتبتهج.. غير ملامة.. ربما لم تفقد حبيباً، ولكنها فرحت لأخذ ثأر من فقَدن.
رهاب الخوف ممّن خلفنا زال إلى الأبد
لم نجد مخبرين ولا كتَبَة تقارير، لم نجد كما كنا نسمع “كل سوري وراه سوري عم يراقبه”، جسور الخوف التي أنتجتها حقبة آل الأسد بين السوريين وحواجز عدم الثقة كلها تهدمت اليوم، ظهر السوريون بحبهم الحقيقي لبعضهم، ونفوسهم المحبّة للخير دائماً بعد أن أسقطوا إله الشر وصانعه في بلدهم.
شباب صغار بعضهم بعمر المراهقة احتفلوا وسط فتيات آمنات مطمئنات، تآخوا جميعهم، في حين كنّ يخَفنَ منهم في مسيرات الأسد التي جُبرنَ كما جبروا على الامتثال فيها من دون عقيدة، وبالتالي، فمن يبادر بسيئة لن يُعاقب أو يُحاسب ولا خوف عليه، بل يُعاقب من لا يبدي مطلق الولاء للأسدية والبعثية في المسيرات التي ظنّوها أزلية.. في حين سقطت ودُعاتها في مزابل البشرية.
هنا جوهر الحقيقة، لم يجبر السوريون على الاحتفال بعيد نصرهم الأعظم، خرجوا فعلا بـ”عرس وطني”، وإن كنا قد استعرنا هذه العبارة من أدبيات حزب البعث، ولكن! يبدو أن سياقها قد ولد اليوم حقاً.
مشاعر كانت مدفونة
مظاهر التعبير عن الفرح اختلفت واختلافها دلّ دلالةَ حقٍ على شعب حرم سنين طوال من الحرية أو حتى من تعلّم معناها. فالشعب التواق ليعبر عن رأيه وجد في ليالي النصر مفترجاً يقول فيه من يحب وما يحب ولمن يميل هوى فكره.
في ساحات دمشق حُملت صور الشهيد رفيق الحريري، وحملت صور صدام حسين الزعيم العراقي الراحل على سيارات كُتبت عليها عبارات ينعون فيها زعيماً أحبوه خفيةً يوماً ما.
حُملت صور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ورُفعت أعلام المملكة، رُفعت رايات تدعو بالنصر لفلسطين وأهلها. رُفعت صورة أمير دولة قطر تميم بن حمد ورُفع علم قطر وعبارات تدعو لقطر وأهلها.
في الجهة المقابلة رُفعت لافتات حملت عبارة حلاوة الجبن درعاوية، ناسفين بدعابتهم صراعات حمص وحماة الأزلية وأخرى طلب حاملها من قارئيها الدعاء له بزواج من أحبها وكأنه يطوف حول الكعبة.
آخرون قالوا في لافتات حملوها “ها قد مر عام على سقوط الأسد ولم تسقطي في حبي بعد”. أو “مرت سنة ولسا ما جوزتونا.. ع أساس بس تتحرر تجوزونا” وغيرها الكثير والكثير، هكذا فرح السوريون.
كرمال الله وعيد التحرير
لم يجد أحدهم في أثناء طريقه للالتحاق بجموع ساحة الأمويين مكاناً أقرب من ساحة سانا في البرامكة ليركن فيه سيارته، مستأذنا الشرطي بالمرور عكس السير نحو عشرة أمتار فقط فيأذن له، وما أن تحرك حتى حاوطته صافرات شرطي آخر وبدأ الحوار الصاخب الجاد “اركن ع اليمين بسرعة وهات وراق السيارة. أخي الله وكيلك زميلك عطاني الأذن.. قلتلك صف ع اليمين وين مفكر حالك.. ركض الآخر نحوه وقال: انا سمحت له.. خليه يصفها بدو يروح ع الساحة”، وما أن تفوه صاحب السيارة بعبارة “أخي مشينا الله يجبرك كرمال الله وعيد هالتحرير” حتى ضحك وجه الشرطي وقال: “يلا روح بس لاتعيدا”.
هكذا فرح السوريون وهذه عجائب فرحتهم.
كوميديا.. تراجيديا: دراما حية في ساحة الأمويين
أصابت إحدى السيدات نوبة انخفاض ضغط وتعرّق نتيجة للازدحام وهي على مشارف الوصول إلى ساحة السيف الدمشقي، طلبت ممن أمامها مساعدتها وطفلها بعبور الشريط وكان ذلك، ساعدها رجال الأمن، لكن، يبدو أن أخرى قررت تجريب حظها فآثرت القفز هي الأخرى لكن عناصر الأمن حاولوا منعها، فصاحت ابنتها “عم تضرب أمي يوال” وانهالت على الشرطي ضرباً بعد أن قفزت نحوه كسرعة البرق متجاوزة الشريط، الفرح هنا كان ضحكاً ملا المكان، وتأكيدا بأن الرئيس الشرع أصاب حين قال ممازحاً بأنه “لا خوف على المرأة السورية بل على الرجل”.
في الجهة المقابلة ولدت تراجيديا حين حاول أحدهم إشعال ألعاب نارية سقطت وآذت عين امرأةٍ بدأت بصراخ عالِ جعل كل من حولها يركض نحوها ونوديَت فرق الإنقاذ لإسعافها. الفرح هنا كان تعاطفاً وحزناً على السيدة.
لم تثنِ حادثتا السيدتين السوريين عن ديمومة فرحهم التي استمرت حتى الصباح..
شعب حي
السوريون شعب حي. هكذا وصفوا أينما حلوا، كما وصفت شآمهم بأنها قلب الشرق النابض وأيام النصر كانت شاهداً، ففي جهة عُقدت فيها دبكة على أنغام “لبت لبت” الأهزوجة التي نالت بين أغاني النصر بطل الموسم الأول بامتياز. عُقدت في الطرف الآخر “بسطة” تُباع فيها مشاريب ساخنة و “سناكات” يجول بينهم الكثير والكثير من باعة الأعلام والورود والماء.
بين الحافلات والسيارات، تجوّل أطفال كالورود يبيعون أعلاماً ووروداً للمحتفلين، يشتريها منهم أطفال آخرون مع ذويهم ويرقصون بها، كما نصبت “بسطات” لبيع الفواكه في الساحات لمن أراد بلهجة السوريين أن يشتري برتقالة بها “يبلّ قلبه”، تشفياً بسقوط الأسد.
هكذا هم السوريون وهكذا كان فرحهم.
المصدر: تلفزيون سوريا


