أظهرت قائمة الاعتداءات التي تعكس تفشي الثقافات العنصرية في أوروبا، خلال العقود القليلة الأخيرة أن الجرائم المتزايدة التي تعكس تضخم الثقافة الداعشية ضد الاسلام ورموزه الأساسية إنما تستهدف على نحو خاص المساجد في أوروبا ، رغم أنها في غالبيتها الساحقة مجرد دور للعبادة وأداء بعض الطقوس وحسب ، فضلا عن بعض الوظائف الاجتماعية ، كتنظيم علاقات الزواج والطلاق ، والعناية بدفن الموتى حسب الشريعة ، وهي تقوم بهذه الوظائف الدينية والاجتماعية بالتنسيق مع مؤسسات الدولة والسلطات القانونية الرسمية . مما مما يثير أسئلة من نوع :
لماذا يستهدف “الداعشيون” الاوروبيون اعتداءاتهم على المساجد دون سواها من المؤسسات أو المنظمات الثقافية والسياسية والاقتصادية التي باتت كثيرة جدا وتوجد في كل مكان ..؟
هل هي عمليات فردية ومتفرقة .. أم أن هناك جهات وتنظيمات تقف خلفها وتساعد عليها ولا سيما من الدول ..؟
التركيز على المساجد .. لماذا ؟
———————————–
تركيز الاعتداءات على المساجد ينطوي على فكرة أن المسجد هو المؤسسة الدينية والروحية الأولى التي تجمع المسلمين وتوحدهم ، وتتجاوز الانقسامات العرقية والوطنية واللغوية ، كما تتجاوز المذاهب الاسلامية ذاتها أيضا . بل إن المسجد في الواقع يمثل الهوية بالنسبة لجميع المهاجرين المنتشرين في الغرب والمغتربات . فالمهاجرون يشعرون بخطر أو تحدي الذوبان وفقدان الهوية في بوتقة المجتمعات الغربية ، وثقافاتها القومية والمسيحية . لذلك فإن اللجوء للمسجد يلبي ضرورة وحاجة ماسة تتجاوز (العبادة) الى حماية الذات وتعميق الارتباط بالهوية الدينية الأصلية ، خصوصا وأن الدول الأوروبية المستقبلة للمهاجرين تطبق برامج مختلفة لا تقف عند استيعاب المهاجرين وحسب ، وإنما تستهدف دمجهم وصهرهم وتذويبهم في مجتمعاتها ، الأمر الذي يضاعف ويعمق مخاوفهم الشديدة من ضياع الهوية ، ولا سيما لأبنائهم ، فيعمدون الى الاحتماء بالمساجد ، ومؤسساتها التربوية والثقافية للدفاع عن خصوصياتهم وعقيدتهم الدينيه ، بل وهويتهم ولغتهم ، وهي مخاوف واقعية ومفهومة .
لذلك تراوحت مواقف الدول الاوروبية إزاء المساجد من الحظر المطلق ، أو التشدد في المنع والرقابة ، ووضع الشروط الصارمة عليها وعلى انشطتها الروحية والاجتماعية ، أو التساهل الواسع . ففي اليونان مثلا عجزت محاولات الدول العربية مجتمعة طوال عشرين سنة عن اقناع السلطات السياسية والكنسية بالسماح لها ببناء مركز اسلامي كبقية المراكز التي نشأت في دول غربية كثيرة ، كتطور طبيعي ونتيجة لتكاثر اعداد المهاجرين المسلمين فيها. وفي سويسرا سمح البرلمان ببناء مسجد ، ولكنه حظر أن يكون له مئذنة ! وفي فرنسا التي شيدت حكومتها مسجدا لمسلميها الافارقة الخاضعين لاحتلالها في بداية القرن العشرين ، فإنها في الخمسين سنة الماضية فرضت شروطا تعجيزية عليها وعلى أئمتها .
وجميع هذه الدول تشترك في مراقبة المساجد ، وكل حركة وسكنة فيها ، وخاصة خطب الأئمة ودروس الوعاظ وأفكارهم ، ولا تسمح بتناول القضايا السياسية التي تتناقض مع قيمها ومثلها ، وخاصة حرية المرأة ومساواتها بالرجل ، وحقوق المثليين ، ومبادىء الديمقراطية ، والتعرض لليهود ، ونشر العقائد السياسية ، أو مهاجمة الأنظمة الأجنبية . وهي لا تفعل ذلك بشكل فج أو غليظ ، ولكن بنعومة وتفاهمات ومقايضات ومساومات غير منظورة دائما .
دور روسي تحريضي :
————————
وفي السنوات التي تلت انهيار الأنظمة الشيوعية في اوروبا من روسيا الى المانيا الشرقية ظهرت محاولات مدروسة لايهام الشعوب بأن ( الاسلام ) هو عدوها الجديد الذي يهدد الغرب ويسعى لأسلمة المجتمعات الأوروبية بأساليب تجمع بين الدعوة والتحريض والمال ، وبناء المساجد والمدارس والمنظمات الاسلامية في كل مكان ، بل ذهب البعض للزعم أن ازدياد معدلات ( الهجرة) الى أوروبا يحدث تنفيذا لاستراتيجية هجومية منسقة ، تعتمدها دول ومنظمات اسلامية وعربية ، ويندرج بناء المساجد من ضمنها أيضا ، ولنفس الأهداف ، نشر الاسلام وتعكير صفو وصفاء المجتمعات المسيحية في الغرب ، وتهديد انماط الحياة المسيحية فيها ، وتهديد النظم الديمقراطية ، ونشر الارهاب والعنف .
هذا الموقف العدائي المسبق الأمر خلق فعلا ظواهر ومظاهر عدوانية وارهابية متزايدة في غالبية الدول الاوروبية والاميركية ، وأصبحت تشكل ظاهرة (الاسلاموفوبيا) أي الخوف من الاسلام وتحويله خطرا داهما ينبغي التصدي له استباقيا .
وفي الفترة الأخيرة التي ظهرت فيها السياسة الروسية البوتينية الجامحة على المسرح الدولي ، ظهرت أيضا موجات من المحاولات والمساعي التي ترعاها موسكو بشكل ممنهج ودؤوب للتأثير في سياسات الدول الغربية وفق توجهاتها العقائدية ، فقد أصبحت روسيا مصدرا لدعاية ممنهجة تحريضية وعدوانية على الاسلام والمسلمين المهاجرين في أوروبا بأساليب وطرق شديدة المكر لها أهداف سياسية واستراتيجية أبعد كثيرا من العداء للدين فقط كما نرى في المثال التالي .
وعلى سبيل المثال في عام 2015وفي ذروة تدفق اللاجئين السوريين الى أوروبا جراء الحرب الوحشية التي ارتكبتها روسيا ضد الشعب السوري دفاعا عن نظام توتاليتاري ارهابي باعتراف غالبية دول العالم ، وكان الاوروبيون في هذه الفترة متعاطفين بقوة مع اللاجئين السوريين ، ادعت فتاة المانية أن مجموعة لاجئين سوريين اغتصبوها في ليلة رأس السنة ، وبثت إحدى القنوات الاوروبية فيديو يمثل جريمة الاغتصاب على نطلق واسع ، فوجدت الفتاة تأييدا واسعا ، وأحدثت القصة تأثيرا سلبيا على السوريين اللاجئين ، وعندما بدأت الشرطة تحقق في الجريمة اتضح أن الحادثة مفبركة وأن شريط الفيديو منتج في روسيا ، وأن المحطة التي بثته تمولها روسيا ، كما اتضح أيضا أن الفتاة نفسها من أصل روسي ، ومهاجرة الى المانيا كالسوريين الذين تستهدفهم بعنصريتها !. وتوصلت الشرطة الالمانية الى أن القصة لا أساس لها ابدا ، وهي جزء من حرب روسيا لتشويه صورة الاسلام والمسلمين في العالم ، وجزء من حربها في سورية ضد معارضي نظام الأسد !!.
ودليل آخر على هذه المحاولات العدوانية المسيئة ، ولا سيما عبر وسائل الاعلام ، هو ذلك المقال الذي نشرته صحيفة كومسومولسكايا برافدا للكاتب فلاديمير دوبرينين ، ووزع على نطاق واسع في الغرب ، وملخصه أن بناء المساجد في اوروبا يعكس استراتيجية تعتمدها دول عربية واسلامية محددة ، لإضفاء هوية اسلامية على القارة والحاقها بالعالم الاسلامي . وما يثير في المقال ليس تحامل الكاتب المتعمد وتحريضه على 40 مليون مسلم استوطنوا في القارة عبر مائتي سنة ، تلبية لحاجات متبادلة ، وتطورات عالمية طبيعية ، بل هو المعلومات الزائفة التي بنى عليها الكاتب أفكاره ليقنع القارىء بوجود (خطر اسلامي) داهم يهدد القارة ، ويشحنه بالخوف والكراهية ضد المسلمين .
يزعم المقال أن دول الخليج العربية تقف خلف هذه الاستراتيجية ، وتخصص المليارات لبناء المساجد . ويحدد الكاتب كلا من السعودية وقطر والامارات والكويت وايران بشكل رئيسي ، ويضيف اليها تركيا والمغرب والجزائر ، دون أن يربط اهتمام هذه الدول ببناء المساجد ووجود جالياتها في اوروبا ، وحاجتهم الماسة لمؤسسات دينية بشكل طبيعي . ويزعم الكاتب أن قطر انفقت 25 مليون يورو في ايطاليا في عام 2016 لبناء43 مساجدا. وفي اسبانيا أبرمت اتفاقا مع الحكومة لترميم مسجد قرطبة الاندلسي وتحديثه ، مقابل السماح لها ببناء 150 مسجدا في المدن الاسبانية .
ويزعم أن السعودية انفقت 200 مليون يورو في المانيا وحدها لبناء 200 مسجد عام 2015 , وقال إن اجمالي ما تنفقه السعودية لبناء المساجد في اوروبا بين 2-3 ليار يورو سنويا. ويخلص أن المسلمين شيدوا في السنين الاخيرة في اسانيا وحدها 1400 مسجد, بينها 214 في كتالونيا!
ويدعي أن إجمالي عدد المساجد أصبح في فرنسا 2450 مسجد، وفي بريطانيا 1700 مسجد، وهكذا دواليكم.
هذا المقال الروسي الذي يفتقر للمصداقية ككل الاعلام الروسي ، هدفه الوحيد تغذية الكراهية والخوف من الاسلام ، الأمر الذي ينبغي ادراجه في خلفية نشوء ظاهرة الحركات الداعشية المسيحية في أوروبا . وهناك مثله سيل عرم من المقالات والتحقيقات المصورة والافلام ، فضلا عن الكتب والابحاث ، وامتدادا الى المؤتمرات والندوات الكثيرة التي تساهم في تقوية الحملات الدعائية العدائية التي جعلت ملايين المسلمين في اوروبا هدفا للاعتداءات والجرائم المنظمة والتمييز العنصري والديني ، وإحلالهم محل (الطوائف اليهودية) خلال النصف الأول من القرن العشرين !
والواقع أن هناك دولا أجنبية عديدة تشارك بهذه الحملات المسمومة ضد الاسلام والمسلمين في الغرب، وتتهمهم بالإرهاب، وهناك أجهزة ومنظمات اعلامية ودينية وثقافية وأحزاب سياسية متزايدة باتت تحترف ترويج مثل هذه الانماط من الفكر والاعلام والدعاية الفجة لتحريض الرأي العام ضدهم، وهي تتربح وترتزق من هذه الدعايات الضالة التي تشعل النار في بلدانها وفي سكانها، تعبيرا عن شدة حقدها وعدائها على كل ما يرمز للإسلام. لقد أصبح المسلمون الاوروبيون هدفا لعدوانية مستترة وعلنية، تشبه ظاهرة اللاسامية في بداية القرن الماضي والتي ساهمت في اشعال حربين، وأدت للمحرقة المروعة لليهود وقتل ملايين اليهود. في ذلك الوقت كانت روسيا في مقدمة الدول التي حرضت على اليهود لأسباب سياسية ودينية مرتبطة بكنيستها الارثوذوكسية المتشددة، ويتكرر اليوم المثال ذاته قادما من روسيا البوتينية بهدف ابعاد نظر الدول والشعوب الديمقراطية في الغرب عن خطر التوجهات الروسية القومية والعنصرية الجديدة على الغرب، وتوجيه أنظار العالم الى خطر مصطنع وعدو مفتعل، هو الاسلام العالمي كثقافة وأمة.