
مع كثرة الجدالات بشأن قرار مجلس الأمن أخيراً، الخاصّ بالصّحراء الغربية، هل يمكن لنا، في الجزائر، مع الأشقاء في المغرب أن يكون بيننا نقاش هادئ نلتقي فيه بالمحاججة المنطقية من دون تشنّج، بقصد الوصول إلى رؤية تفيد الإقليم كلّه، منطقة المغارب، ونُبعِد عنّا ما يريد بعضهم زرعه حقّاً، وهو الفيدرالية أو تفجير الأوطان المُحرَّرة من الاستعمار التي بُذلت من أجلها الدماء الغالية؟
يُقال، في علم المفاوضات، إنّ الشيطان يقبع في التفاصيل، وهو بذلك يجرّنا نحو تحليل القرار بمرجعية متغيّرَيْن اثنَيْن: القانون الدولي/ الشرعية الدولية، من ناحية، ومبادرة الحكم الذاتي المغربية للعام 2007، من ناحية أخرى، بهدف (كما قلنا) إرساء مرتكزات نقاش هادئ ومثمر مع الأشقاء في المغرب. وهدفنا (دائماً) تجاوز تلك التفاصيل للذهاب/ للقفز إلى الأهم، وهو مستقبل الإقليم المغاربي مع كل التحدّيات التي تعتريه، وعلى صنّاع القرار جميعهم إدراكها، لبناء قوّة مغاربية تصارع التدخّلات والتلاعبات في حديقتنا الخلفية، المنطقة الساحلية الصحراوية، ونحن ننظر ولا نحرّك ساكناً.
أعاد القرار الأممي القضية إلى مربّعها الأوّل، لأنّ المعروض حقّاً مبادرة حصرية للمغرب، يُقدَّم فيها الحكم الذاتي مرادفاً لتقرير المصي
بدايةً، يجب أن نذكّر بأنّ ملفَّ الصّحراء الغربية، بمرجعية القانون الدولي ونصوص الشرعية الدولية، ملفٌّ الثابتُ فيه (على التوالي) بُعدُ السيادة المغربية عليه، وإقليم يجب أن يقرّر مصيره. وبالنتيجة، نحن أمام حصرٍ للقانون الدولي والشرعية الدولية، وفق موازين الوقت، في حلّ واحد، هو مبادرة الحكم الذاتي المغربية المطروحة منذ 2007، التي (وفق بعض كتابات مغربية نفسها) قد لا تكون مدخلاً إلى النصر، بقدر ما تفتح أبواب جدال دستوري واستراتيجي في المغرب الشقيق، ستحاول هذه المقالة الحديث عنه، من دون تشنّج وبكل أريحية.
في محاولة لرفع الجمود عن القضية الصحراوية، نطق الأميركيون بما ظنناه مجرّد تغريدة في النَّفَس الأخير للولاية الأولى للرئيس ترامب، عرفاناً منه للمغرب بمسارها نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني في إطار “الاتفاقات الإبراهيمية”. وما كان لذلك الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء أن يتحوّل مساراً سياسياً، إذ ماطل الرئيس السابق بايدن والديمقراطيون في ذلك، إلى أن جاء ترامب في ولايته الحالية ليعيد الحياة إلى تغريدته في لبوس قرار أممي في مجلس الأمن يقرّر فيه، بل يُشرِّع فيه، حصرية الحلّ في مبادرة الحكم الذاتي التي أضحت (في الفترة الماضية) مثار اعتراف عضوَيْن من أعضاء مجلس الأمن الدائمَيْن (فرنسا وبريطانيا)، وقوى إقليمية (إسبانيا).
لكنْ، ما يُلاحظ في نصّ القرار الأممي (أكتوبر/ تشرين الأول 2025) أنّه أعاد على مسامعنا، وعلى طاولة مفاوضات مقبلة ربّما بين طرفي النزاع، المغرب و”بوليساريو”، نقطتَيْن: ما نصّ عليه القرار من استخدامه “قد يكون الحكم الذاتي، حصراً، حلّاً للقضية”، وما جاء في رسالة ترامب إلى العاهل المغربي محمّد السادس، بمناسبة عيد العرش في يوليو/ تموز الماضي، إذ وردت عبارات “الحكم الذاتي الجادّ والواقعي”. وبما أنّ الشيطان يكمن في التفاصيل (نكرّرها ثانيةً)، ما يجب أن يُنظر إليه تفسير العبارتَيْن المذكورتَيْن، والرجوع إلى مبادرة الحكم الذاتي نفسها، لإيضاح الملتبس من النقاط، لعلّ الكل يستفيق مدركاً أنّ الغرب لا يريد لنا خيراً بقدر ما يريد أن يستمرّ في عرقلة جهود الالتحام لتشكيل نواة قوّة إقليمية موازِنة في جنوب المتوسّط.
في التفاصيل التي يكمن فيها الشيطان بعض ممّا استقرّ عليه المتخصّصون في قراءة النصوص التي قد تصبح قواعدَ قانونيةً عليا وصمّاء توضع في الدستور
تعيد عبارة النصّ الأممي “قد يكون” وليس “يكون” في منصوص القرار الأممي، القضية إلى مربّعها الأوّل، لأنّ المعروض حقّاً مبادرة حصرية للمغرب، وفي النصّ حديث أن الحلّ المغربي مرادف لتقرير المصير، بالرغم من أن الجميع يعلم أن تقرير المصير لا يكون بالانضمام إلى بلد أو حتى الحصول بعد مفاوضات على حكم ذاتي موسّع بمنطوق المبادرة المغربية في نصّها للعام 2007. في هذا الإطار، تحدّث المغرب، فور إقرار القرار الأممي، عن أمرَيْن: دعوة الجزائر إلى مفاوضات لتطبيع العلاقات، ثمّ أنّ مسوّدة أخرى مُحيَّنة ستوضع على الطاولة عند انطلاق المفاوضات المحتملة بين المغرب و”بوليساريو”.
أمّا عبارات ترامب في تهنئته ملك المغرب في عيد العرش: “حكم ذاتي حقيقي وجادّ”، فهي عبارات تحتمل معانيَ كثيرةً، أو حمّالة أوجه كما يُقال، وهي المحفّز (مع بعض القراءات المغربية لنقائص مبادرة الحكم الذاتي في نصّها للعام 2007) للحديث الرسمي في المغرب عن إعادة صياغةٍ للمبادرة، ذلك أنّ صفتي “جادّ” و”حقيقي” تتضمّنان الإشارة إلى رقابة دولية على التطبيق الفعلي (في حال قبل الصحراويون بذلك) للحكم الذاتي المُوسَّع، كما تتضمّنان احتمال أن تصل المفاوضات إلى إقرار “شبه استقلال” للصحراويين لن يقبل به المغرب، إذ (وهنا نعيد عبارة الشيطان في التفاصيل) ستكون المفاوضات شاقة ومعقّدة، ولهذا تمّ التمديد لبعثة الأمم المتحدة في الصحراء الغربية (مينورسو) إلى غاية أكتوبر/ تشرين الأول 2026، بنصّ القرار، لأنّ ثمة شروطاً يجب أن تخضع لها المفاوضات (إن جرتْ) في الشكل والمضمون، ولا يمكن أن تجري إلا بتجسيدها، ومنها النصّ المُعتمَد (مبادرة 2007)، والتفسيرات المعطاة للحكم الذاتي المُوسَّع، ووفد “بوليساريو” المفاوض، والاستقلالية المالية والسياسية (تكوين البرلمان الصحراوي وفق نصّ المبادرة)، ثمّ طبيعة السيادة الصحراوية الاقتصادية في ظلّ مبادرة الحكم الذاتي، وصولاً إلى طبيعة السيادة المغربية في الدفاع والسياسة الخارجية، وهل سيكون للصحراويين فيها رؤية أو دخل أو رأي أو مشورة… هذا كلّه والطرفان لم يدخلا في المفاوضات بعدُ، ما قد يستغرق أعواماً ويمتدّ إلى طلب الطرفَيْن ضماناتٍ تتولّى فرض الاحترام لشكل مفاوضاتهما، في المستقبل ومخرجاتها، خاصّة أنّ المغرب سيكون تحت نظر الشرعية الدولية في تعامله مع الملفّ مع احترامٍ كاملٍ لنصّ القرار، ومضمون المبادرة وحقيقة ما اشترطه الأميركيون للذهاب معهم إلى مجلس الأمن وإقرار حصرية الحلّ في مبادرتهم، ليس إلا.
هناك، في التفاصيل التي يكمن فيها الشيطان بعض ممّا استقرّ عليه المتخصّصون في قراءة النصوص التي قد تصبح قواعدَ قانونيةً عليا وصمّاء توضع في الدستور. وهنا نحن أمام نقطة معقّدة وردت في نصّ مبادرة 2007، تقضي بإدراج الحكم الذاتي الموسّع في النظام السياسي المغربي بقصد تطبيقه على إقليم الصحراء الغربية، وهو ما يعني، حقّاً أنّ المغرب سيصبح، بموجب مادّة دستورية صمّاء، دولةً فيدراليةً قد تفتح الباب واسعاً أمام مطالباتٍ كانت في طيّ النسيان من مناطق شكّلت أرقاً بالنسبة إلى السلطة في المغرب، وأعني بها هنا منطقة الريف.
كما في تلك التفاصيل، ما تضمّنته مبادرة الحكم الذاتي المغربية للعام 2007 أنّ المغرب سيوفّر لإقليم الصحراء الغربية استقلالية مالية قد لا تكون في مستوى ما وُفِّر لباقي أقاليم المغرب، التي كانت السبب في احتجاجات “جيل زيد” أخيراً، ما سيوقع المغرب تحت طائلة المساءلة الدولية إذا لم يكن التطبيق للحكم الذاتي “جادّاً وواقعياً”، وهو ربّما ما استبقه المغرب بالإعلان أنّ ثمّة نصّاً آخر سيشكّل قاعدةً للمفاوضات، ما سيبعث على الشكّ منذ المنطلق في إرادة المغرب القبول بنصّ مبادرته التي كان هو من كتبها ودعا إلى إقرارها، بل بنى عليها سياسته الخارجية كلها، وعقيدته الاستراتيجية في العقدَيْن الماضيَيْن ونيّف.
هذه ملاحظات على التطوّرات أخيراً في قضية الصحراء الغربية، التي دعا الكاتب، مراراً وتكراراً، في مقالات في “العربي الجديد”، وفي كثير من نقاشاتنا مع أشقّائنا في المغرب، بل في ملتقيات كثيرة وكتابات أكاديمية عديدة، إلى حصرية التوافق المغاربي عليها، وعلى أن توضع جانباً، حتى تكون الأولوية لنضج المشروع التكاملـي المغاربي بمؤسّساته، وتؤدّي ثمارُ البناء المغاربي إلى ما هو أفضل للجميع، وفي إطار “اتحاد المغرب العربي”، ليكون المسار واحداً من الحلَّيْن، بقبول حصري للصحراويين: تقرير المصير أو القبول بالحكم الذاتي ضمن السيادة المغربية، على أساس قاعدة الاستفتاء. ولو طُبّقت أولوية العمل المغاربي وبثماره، كان الملفّ سيصبح سهلَ الحلّ، وبقبول الجميع، لأنّ البناء التكاملـي يكون قد تجاوز، بمصالحه ومكاسبه، استحالة التضحية به على حساب مسار حلّ القضية الصحراوية.
إدراج الحكم الذاتي الموسّع في النظام السياسي المغربي قد يجعل من المغرب دولةً فيدرالية، ويفتح الباب أمام مطالباتٍ كانت في طيّ النسيان، مثل منطقة الريف
كنّا في نقاشات كثيرة، وأشرنا إلى نقائص المبادرة، وأنها ستكون (إن قُبِل نصّها وكان قاعدةً لمفاوضات بين طرفي النزاع، المغرب والصحراويين) فخّاً نُصب للمغاربة الأشقاء، وإذا وقعوا فيه فسيكون فتحاً لباب هو فتن المطالبات الفيدرالية التي قد تعجّ بها المنطقة. ولهذا رفضت الجزائر ما جرى في ليبيا منذ 2014، بمرجعية أنّ ما كان سيحدُث تقسيم ليبيا إلى ثلاث مناطق، وإدخال الفيدرالية إلى المنطقة، ما سيضعف الدولة الوطنية في الإقليم المغاربي لصالح ولاءات فرعية ومطالب مناطقية ممّا يريده الغرب أن يصبح قاعدة لزرع شبهات التفرقة بين أبناء الوطن الواحد، ويمنع من تحقيق مطالب البناء التكاملـي المغاربي، حلم جيل الرجال التاريخيين في المنطقة كلّها، من “نجم شمال أفريقيا” إلى اجتماع طنجة في 1958، ثمّ قرار إنشاء اتحاد المغرب العربي في الجزائر في 1989.
هي مجرّد فِكَر في مآلات القضية الصحراوية، حتى لا يظنّ أحدٌ أنّ ثمّة رابحاً وخاسراً، بل المنطقة كلّها خاسرةٌ إن اتّبعنا ما جاء في القرار الأممي وما نصّت عليه المبادرة الخاصة بالحكم الذاتي. فلا المنطقة في حاجة إلى مزيد من الصراعات، ولا ساكنة المنطقة في حاجة إلى العيش في قلقٍ وفي عدم استقرار لا يخدم أحداً، وليس في صالح أيٍّ من دول المنطقة.
المصدر: العربي الجديد






