دموع فضل عبد الغني ومسار العدالة الانتقالية المؤجلة

ضاهر عيطة

أن يبكي مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني في لقاء على قناة تلفزيون سوريا خلال تصريحه عن مصير عشرات الآلاف من المختفين قسريًا، ويعلن على الملأ أن جميعهم باتوا أمواتاً، وهو الذي عاش تفاصيل ملفات المعتقلين وتابع توثيق الإبادات الجماعية، وكان متوقعاً منه أن يكون أكثر تماسكاً وأكثر تأقلماً مع خبر كهذا، لكنه لم يستطع إلا أن يبكي بكاء مريراً، كاشفاً النقاب عن حجم المصاب الأليم وفداحته، معلناً أن أكثر من مئة ألف إنسان من المختفين قسراً باتوا في عداد الأموات.
ربما جالت في خاطر فضل عبد الغني مشاهد كثيرة وهو يصرح بهذه الحقيقة، وهو يدرك أن في تلك اللحظات كان يسمعه ويشاهده عدد كبير من السوريين، ولعله تخيل أن أمامه مئة ألف أم، ومئة ألف زوجة، ومئة ألف طفل كانوا يقفون خلف الأبواب ينتظرون في كل لحظة سماع خبر عن عودة حبيب كان في الغياب، لكنه بنحو أو بآخر أعلن لهم صراحة أن كفّوا عن الانتظار والوقوف خلف الأبواب، فما من باب سيقرع، ولا من غائب سيعود، فمصيركم أن تعيشوا أيتاماً وثُكالى، يا كل الأطفال والأمهات السوريين المنتظرين.
مئة ألف إنسان ليس رقماً صغيراً، وخلف هذا الرقم تقف ألف ألف حكاية ومأساة، تحيلنا جميعها إلى ثيمات الفقدان والألم والرعب والبكاء.
وبهذا المعنى، لم يكن كشف فضل عبد الغني عن هذه الحقيقة مجرد تقييم حقوقي، بل كان إعلاناً عن انهيار أمل الانتظار، وقد آتى بكاؤه على الهواء في لحظة إنسانية نادرة، تحطّم فيها الحاجز بين الإحصاء والتوثيق واللغة القانونية، وبين لغة القلب والشعور بالآلام وخيبة الآمال.
لا يمكن لسوريا أن تُبنى من جديد ما لم تبدأ من لحظة صادقة تقول فيها: لقد وقع الظلم ويجب إصلاحه، هذه هي الخطوة الأولى نحو وطن لا يحتاج فيه أحد لإثبات “من كان على حق”..
وبدا وكأنه ينعى حقبة من حياة السوريين فُقدت فيها الأخلاق والقيم الإنسانية قبل أي شيء. وهذا التصريح وحده يكفي ليبرهن على أن الكلام عن “مصالحة” أو “تسوية سياسية” من دون عدالة هو مجرد إعادة إنتاج للمأساة بشكل آخر.
فالرؤية المشتركة التي يحتاجها السوريون لا يمكن أن تُبنى فوق جثث الحقيقة ولا فوق صمت مفروض، بل يفترض أن تبدأ من الاعتراف، من محاسبة المنتهكين، وإعادة تعريف معنى الدولة، فالعيش المشترك لا يقوم على النسيان، بل على القدرة على مواجهة الذاكرة بشجاعة.
ولا يمكن لسوريا أن تُبنى من جديد ما لم تبدأ من لحظة صادقة تقول فيها: لقد وقع الظلم ويجب إصلاحه، هذه هي الخطوة الأولى نحو وطن لا يحتاج فيه أحد لإثبات “من كان على حق”، لأن الحق سيكون حينها قيمة مشتركة لا سلاحًا يحمله طرف ضد آخر.
فالحكمة ليست في البحث عمّن يملك الحقيقة، ولا في إثبات صحة ما يراه طرف وما يراه طرف آخر، بل في القدرة على الوصول معًا إلى رؤية مشتركة تتيح للجميع البقاء ضمن وطن واحد من دون أن يلتهمهم الشك أو الريبة أو الخوف.
وهذا الشرط البسيط في ظاهره هو في الواقع أحد أعقد متطلبات المجتمعات الخارجة من الاستبداد والإبادات الجماعية، حيث تتهشم الثقة، ويُنتج نمط من العلاقات يجعل الحوار فيما بينها ممارسة عقيمة أو شبه مستحيلة.
لذلك فإن استعادة القدرة على بناء رؤية مشتركة شكلاً من أشكال استعادة السياسة ذاتها، بمعناها الأخلاقي لا السلطوي، وبالفعل تمثل الحالة السورية مثالًا حياً على هذا التعقيد.
فبعد أكثر من خمسين عاماً من حكم نظام الأسد الذي أوغل قتلاً وتدميراً في الحياة السورية، ما عادت مؤسسات الدولة مجرد أجهزة إدارية أو خدمية، بل تحولت إلى منظومة متداخلة من السيطرة الأمنية التي تُخضع كل مفصل اجتماعي لرقابة صامتة وشاملة.
ومع انطلاق الثورة عام 2011 كشفت الدولة الأسدية عن وجهها الأكثر عرياً وقباحة: الاعتقال التعسفي تحوّل إلى سياسة عامة، والإخفاء القسري إلى روتين يومي، والتعذيب إلى ممارسة ممنهجة لا تخفي نفسها، بل تتعمد إرسال رسائل خوف عبر ما سُرّب من فيديوهات، وما تم تسريبه من صور قيصر، وأخيراً مشاهد المعتقلين الخارجين من أقبية الأفرع الأمنية وسجن صيدنايا.
وهنا تبرز العدالة الانتقالية بوصفها السبيل الوحيد لوقف هذا الإرث المدمر، بوصفها لا تعني الانتقام، ولا تهدف إلى إعادة إنتاج الضغينة، بل تهدف قبل كل شيء إلى إعادة تنظيم العلاقة بين المواطن من جهة، وبين المواطنين والدولة من جهة ثانية، على أساس يقوم على احترام كرامة الإنسان واحترام معادلة المساءلة والشفافية.
إذ مهما كان التحول السياسي عميقاً، لن يكون كافياً ما لم يتم تفكيك البُنى التي مكّنت الأجهزة الأمنية والعسكرية والثقافية والاقتصادية والتعليمية من ارتكاب الانتهاكات لسنوات طويلة.
وهذا يتطلب بالفعل إزالة ما ترسب من تأثيرات النظام السابق على المؤسسات الجديدة، لمنع استمرارية الاستبداد والإجرام والفساد، وهو ما سبق أن اتبعته أنظمة الدول الأوروبية الشرقية بعد سقوط الأنظمة الشيوعية حين مُنع الموظفون الأمنيون والسياسيون والإداريون المتورطون في دعم تلك الأنظمة من العودة للعمل في الدولة الجديدة، لأن وجود الجناة داخل الدولة يحوّل أي عملية إصلاح إلى عملية تجميلية ظاهرية تخفي السرطان وتغذيه ولا تعالجه أو تستأصله.
ولا تحتاج سوريا إلى أدلة لإثبات تغلغل الجناة والفاسدين في أجهزة ومؤسسات الدولة والمجتمع، فهناك عشرات الآلاف من الوقائع والمجازر والمجرمين الموثقة أسماؤهم لدى الشبكة السورية لحقوق الإنسان، التي يديرها فضل عبد الغني، وبعض هؤلاء ذاع صيتهم محلياً وعالمياً، بينهم ضباط ورجال أمن وشبّيحة أشرفوا على حملات الاعتقال والتصفية وتمت مكافأتهم بترفيع مناصبهم أو مكافأتهم، في حين ضحاياهم دُفنوا في مقابر جماعية سرية أو ما يزالون في عداد المجهول تحت الأنقاض.
ومن هنا أيضاً يمكن قراءة دموع فضل عبد الغني على أنها جزء من الوعي الجماعي السوري: بكاء على الغائبين، وخوف على العدالة التي لم تولد بعد، وعلى احتمال أن تضيع الحقيقة مرة أخرى في دهاليز السياسة.
وكتب فضل عبد الغني في موقع صحيفة العربي/ 03 نوفمبر 2025 عن عزل المتورطين وانتهاج عدالة انتقالية بشأن الضحايا قائلاً: “ينطلق هذا المقال من فكرة مفادها بأن إقصاء المتورطين في الانتهاكات الجسيمة من مؤسسات الدولة ضرورة قانونية وأخلاقية متجذرة في مبادئ القانون الدولي وآليات العدالة الانتقالية، فالتحول الحقيقي لا يكفيه تغيير النظام، بل يقتضي تفكيك البنى التي مكّنت من ارتكاب الفظائع وإعادة تأسيس مؤسسات تقوم على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون، ومن دون معالجة حضور الجناة داخل هياكل الدولة، تفقد بقية أدوات العدالة الانتقالية فاعليتها، ما يفرغ العملية من مضمونها ويقوّض مسار الانتقال برمّته”.
من الطبيعي أن يشكل انهيار الحقبة الأسدية الاستبدادية تحدياً بالغًا للمجتمع السوري في مسار تحقيق العدالة كما أشار فضل عبد الغني في مقاله، ولا سيما أن الجرائم التي ارتكبت لم تكن حوادث فردية ولا “تجاوزات” عارضة، بل كانت ممارسة بنيوية مقصودة انبنت عليها شرعية السلطة الأسدية نفسها.
ولهذا فإنّ أدوات التدقيق في السجل المهني للموظفين واجتثاث العناصر المتورطة بالجرائم من أهم دعائم أي عملية انتقالية.
وقد أثبتت التجارب العالمية أن مقاربة “دعونا ننسى الماضي ونبدأ من جديد” ليست سوى وصفة لإعادة إنتاج القمع بوجه جديد، فما قيمة برامج المصالحة والتعويض إذا كان الجلاد ما يزال في منصبه يوقّع على الأوراق نفسها، ويدخل المكتب نفسه، ويملك السلطة ذاتها، والمجرمون يتجولون طلقاء في الشوارع.
ليست العدالة الانتقالية هنا عقاباً، بل إعادة تعريف للشرعية، وإعادة تأسيس لدولة جديدة تقوم على أسس الكرامة والحرية والمساءلة، وهي الشروط الأولى لولادة سوريا مختلفة عن سوريا في الحقبة الأسدية..
ولا معنى للكلام عن دولة جديدة ومؤسسات حديثة ومستقبل مختلف. إذ كيف يمكن بناء قضاء مستقل إذا كان القضاة الذين وقّعوا على مذكرات اعتقال وقتل وإعدام ما زالوا في أماكنهم؟ كيف نثق بوزارة أو مديرية إذا بقي الفاسد في منصبه، والراشي والواشي وكاتب التقارير؟ كيف نعيد التعليم والثقافة إلى وظيفتهما الوطنية، في حين ما يزال من مارسوا التجهيل والفساد يعملون في هذا السلك؟ إن الإبقاء على الجناة داخل الدولة يعني ببساطة الإبقاء على أسباب الجريمة.
لهذا كله ليست العدالة الانتقالية هنا عقاباً، بل إعادة تعريف للشرعية، وإعادة تأسيس لدولة جديدة تقوم على أسس الكرامة والحرية والمساءلة، وهي الشروط الأولى لولادة سوريا مختلفة عن سوريا في الحقبة الأسدية.
وظل فضل عبد الغني، كغيره من المختصين في الشؤون القضائية والقانونية، ومنذ سقوط السفاح في 8 كانون الأول 2024، ينادي وينبه عبر مقالاته الصحفية ولقاءاته التلفزيونية إلى ضرورة تأسيس محاكم قضائية تسير ضمن الأعراف الدولية المختصة بجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، لكن من دون أن يستجيب لندائه أحد.
غير أن من الجيد أنه في الآونة الأخيرة أمكن له الاجتماع مع المعنيين بهذا الأمر في السلطة السورية الجديدة.
ومهما يكن، فإن الحقيقة لا يمكن أن تُدفن، حتى لو دُفن أصحابها في مقابر جماعية، والعدالة لا تموت، حتى لو مات ضحاياها في الزنازين، وما دام الجناة يتغلغلون في مفاصل الدولة الوليدة، فإن الانتقال يظل ناقصاً وهشاً، ويظل باب البكاء على مصائر السوريين مفتوحاً.
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى