من سلطة الشعب إلى سلطة الفرد

صلاح الدين الجورشي

تبدو نظرية “البناء القاعدي” جذّابة ومغرية. انبثقت من الفكر الديمقراطي الذي ولد من خلال تفريعاته في مرحلة التخلص من الاستبداد والحكم المطلق الذي هيمن قروناً. لهذا، عندما بشّر بها في تونس من جديد الرئيس قيس سعيّد بعد ثورة 14 جانفي (يناير/ كانون الثاني 2011)، تفاعل معه الشباب بالخصوص، لأنهم اعتقدوا أن السلطة الفعلية ستصبح في أيديهم، وسيتخلصون من الأحزاب التي أمسكت بآليات القرار. وظنّوا أن المرحلة الجديدة ستجعل منهم السلطة الفعلية التي تدرس الأوضاع، وتقدّم البدائل، وتشترك مع الحكومة في رسم السياسات وتنفيذها. ولكنّ هذا الحلم الجميل تبخّر تدريجياً، بسبب تعقد الأوضاع، والاصطدام بمراكز قوى متعدّدة سحبت من أصحاب الحلم كل الصلاحيات التي ظنّوا أنهم سيتمتّعون بها.
أول مركز اعترضهم وهمشهم، رئيس الدولة صاحب “المشروع”. حصل ذلك عندما صاغ الدستور البديل، فمنح نفسه جميع الصلاحيات التي كانت في دستور الثورة موزّعة على عديد المؤسّسات والهيئات. جرت مركزة القرار بشكل مطلق، ما دفع الجميع إلى الطواف حول الرئاسة، ينتظرون أوامرها، فقدوا بذلك حقهم في المبادرة، فالسلطة لم تحرم فقط الأحزاب والمجتمع المدني، بل شملت بذلك أيضاً بقية الأطراف، بمن فيهم أنصار المشروع المدافعون بحماسة عن نظرية “البناء القاعدي”. لقد وجد هؤلاء أنفسهم يدورون في فراغ قاتل، ينضوون تحت هياكل من دون صلاحيات، مثل البرلمان والمجلس الوطني للجهات والأقاليم، إذ وجدوا أنفسهم غير قادرين على تنفيذ مقترحاتهم. فهم في وادٍ والسلطة التنفيذية في وادٍ آخر، واكتشفوا، مثل بقية أنصار المشروع، أنفسهم في وضعية “السلطة من دون سلطة”.
العقبة الثانية التي واجهها المؤيدون للمشرع هي الإدارة، فلهذه سلطة ونفوذ واسع، لأن البيروقراطية محكومة بآليات وتقاليد يصعب تغييرها بين عشية وضحاها. تتغيّر الحكومات ويستبدل الرؤساء وتبقى الإدارة جاثمة مثل أخطبوط يصعب قطع أطرافه. لهذا، لم يتمكن أنصار المشروع من التحكّم في أجهزة الإدارة وفروعها، وليست لهم الصلاحية للتدخّل في شؤونها.
أخيراً، تأتي العقبة الثالثة أمام الذين تبنّوا “المشروع”، وتتمثل بـ”الأجهزة الصلبة” التي لا يمكن التدخّل في سير عملها والمساس من صلاحياتها. فولاؤها الوحيد لرئيس الجمهورية وفق نص الدستور، باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة.
هكذا يتبيّن أن نظرية “البناء القاعدي” جميلة وبرّاقة، لكنها، على أرض الواقع، تحوي، في طياتها، جملة من العوائق والأوهام. تعطي باليمين وتسحب منك باليسار كل ما منحته إياك نظرياً. هي بمثابة الحلقة الدائرية، تُرسَل ثم تُسحَب لتعيد القرار إلى نقطة البداية. ولعل هذا يفسّر جانباً من الأزمة السياسية التي تعاني منها شريحة واسعة من أنصار المشروع الرئاسي، ما جعل بعضهم ينقلب على صاحبه بشكل مفاجئ وعنيف. فصدمة الواقع كانت قوية وتراجيدية أحياناً. ومنهم من ابتعد عن الشأن العام، ومنهم من يحاول إعادة التموقع في ساحة يسودها الاضطراب والتجاذبات الأيديولوجية والسياسية.
من جهة، يلاحظ المراقبون أن معظم الاحتجاجات الاجتماعية التي سجّلت أخيراً ترفع عديد الشعارات، منها بالخصوص شعارات ضد رئيس الدولة بشكل مباشر وصريح. ولا يخفى الدافع السياسي لذلك، لكن انخراط غير المتحزّبين والسياسيين في هذه الظاهرة يؤكد حجم الخيبة التي لدى مواطنين عديدين. فالمسيرة التي نُظمت في صفاقس وتجمّع الأطباء الشبان دليلان على ذلك. كذلك فإن لما يحصل في قابس طعماً مراً، لأن المواطنين هناك تجنّبوا في الغالب ترديد ما من شأنه أن يسيء إلى الرئيس، لكن إحساسهم عميقٌ بأن السلطة قد أهملتهم، ولم تسمع نداءاتهم، ولم تأخذ بالاعتبار مطلبهم الوحيد، “إيقاف الوحدات”. والواضح، في هذا السياق، أن هذه المدينة التي أسهمت بقوة في رفع أسهم قيس سعيّد، لم تعد من أنصاره في ما يبدو.
… كل التجارب السابقة التي اتخذت من نظرية “البناء القاعدي” منهجاً للحكم انتهت إلى إقامة حكم الفرد على حساب سلطة الشعب.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى