لم تكن مفاجئة محاولة “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، التي تتبنى خطاباً وسلوكاً متشدداً في الشمال الغربي من سورية، تصدير صورة جديدة لها إلى المجتمع الدولي، في مسعى واضح لتكون جزءاً من حل، بل هي تتويج لخطوات متعددة من قادة الهيئة في هذا الاتجاه، بدءاً من استبعاد المتشددين من صفوفها، مروراً بتسهيل مهام الجيش التركي في محافظة إدلب، وانتهاء بالحد من نشاط مجموعات أكثر تشدداً ترفض السلوك الجديد للهيئة.
ودعا الشرعي العام في “هيئة تحرير الشام” عبد الرحيم عطون، الملقب بـ”أبو عبدالله الشامي”، في حديث لـ صحيفة “LETEMPS” السويسرية الناطقة بالفرنسية، نشر يوم الخميس الماضي ضمن تقرير عن إدلب، إلى تطبيع العلاقات بين الأهالي في مناطق سيطرة الهيئة في الشمال الغربي من سورية مع الدول الأجنبية. وأشار إلى أن “الهيئة تحاول تقديم صورتها الحقيقية، والهدف ليس تجميل الواقع إنما عرضه كما هو”، موضحاً أن “الناس هنا ليسوا على غرار من كانوا في الرقة إبان خلافة داعش”. وقال “مجموعتنا لا تشكل خطراً على الغرب”. وأشار إلى أن “المنطقة بحاجة إلى مساعدة دولية لإعادة البناء”، زاعماً أن “هيئة تحرير الشام آخر من قاتل النظام وحلفاءه، لكننا لن نتمكن من القضاء عليه دون مساعدة”.
وتأتي تصريحات عطون تتويجاً لمسيرة تغيير في الخطاب والهدف، بدأتها “هيئة تحرير الشام” منذ العام الماضي، في مسعى من قائدها أبو محمد الجولاني ليكون جزءاً من حل، وليس سبباً لمشكلة. وسعت أخيراً إلى تحسين صورتها في الشارع السوري المعارض في محافظة إدلب، والتي انهارت تماماً بعد سلسلة هزائم أمام قوات النظام، من خلال زيارات إعلامية قام بها الجولاني إلى فعاليات شعبية في المحافظة، وهو الأمر غير المسبوق في مسيرة الرجل والهيئة. كما كان لافتاً تماهي الهيئة بشكل كامل مع السياسة التركية في الشمال الغربي من سورية، حيث لم ترفض التفاهمات التركية الروسية، بل ذهبت أبعد من ذلك عندما سهّلت مهمة الجيش التركي في نشر آلاف الجنود في أكثر من 50 قاعدة ونقطة انتشار في عموم الشمال الغربي من سورية، وهو ما جلب عليها نقمة مجموعات أكثر تشدداً.
وتسيطر “هيئة تحرير الشام” على غالبية محافظة إدلب، وهي تنشط منذ مارس/آذار الماضي في الحد من نشاطات المجموعات الأكثر تشدداً، حيث اعتقلت، الأسبوع الماضي، عدة شخصيات من الفرع السوري لحزب “التحرير” الذي يدعو إلى إحياء الخلافة الإسلامية. وكانت تصدت بقوة في يونيو/حزيران الماضي لمحاولة عدة فصائل متشددة تشكيل غرفة عمليات عسكرية، غايتها إعاقة تنفيذ التفاهمات الروسية التركية في محافظة إدلب. وحملت الغرفة اسم “فاثبتوا”، وضمت خمسة فصائل، بعضها تتزعمه شخصيات منشقة عن الهيئة، أبرزها أبو العبد أشداء، وأبو مالك التلي. واعتبرت “تحرير الشام” تشكيل هذه الغرفة محاولة لـ”إضعاف الصف وتمزيق الممزق”، لتُصدر بعد ذلك تعميماً منعت من خلاله أعضاء الهيئة، قادة وجنداً، ما سمته بـ”مفارقة الجماعة قبل مراجعة لجنة المتابعة والإشراف العليا” فيها. وتخففت “هيئة تحرير الشام” من كثير من القادة المتشددين، خصوصاً غير السوريين الرافضين لأي حلول سياسية للقضية السورية، وفي مقدمتهم المدعو أبو اليقظان المصري الذي ترك الهيئة في فبراير/شباط 2019، اعتراضاً، كما بدا، على اتجاهها نحو التساهل في بعض القضايا.
ورأى القيادي في فصائل المعارضة السورية العقيد مصطفى البكور، في حديث مع “العربي الجديد”، أن الدعوة التي أطلقتها الهيئة لـ”التطبيع” مع المجتمع الدولي “محاولة لإظهار وجه جديد لها غير الوجه المتشدد الذي يسعى أعداؤها لإظهاره أمام المجتمع الدولي، ووصفها بأنها الابن الشرعي لتنظيم داعش”. وعن فرص نجاح هذه المحاولة، أعرب البكور عن اعتقاده بأنه “من الصعب أن تنجح في ظل وجود الكثير من رافضي أدائها”، مشيراً إلى أن “الأداء السياسي الضعيف” للهيئة من جملة الأسباب التي تحول دون تحسين صورتها.
ومن الواضح أن قادة “هيئة تحرير الشام” يحاولون مواكبة تغيّرات مرتقبة في القضية السورية على صعيد الحل السياسي، في ظل انخراط أميركي، يبدو جاداً هذه المرة، لدفع العملية السياسية وتحريك عدة ملفات ظلت عالقة لفترة طويلة، منها اللجنة الدستورية. ولعل التحرك الدبلوماسي النشط هو ما دفع وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف إلى الإعلان عن نيّته زيارة العاصمة السورية دمشق بعد نحو 8 سنوات على آخر زيارة له لسورية. ولطالما كانت الهيئة الذريعة الكبرى للجانب الروسي للفتك بفصائل المعارضة السورية والمدنيين في مناطق سيطرتها، فهي تصنف الهيئة ضمن التنظيمات الإرهابية. وبسبب وجود “تحرير الشام” في عدة أماكن في سورية، شن الطيران الروسي، منذ أواخر العام 2015، حملات واسعة النطاق انتهت بانتزاع قوات النظام لجنوب سورية ووسطها، وجزء كبير من المنطقتين الساحلية والشمالية.
ورأى الباحث السياسي المختص بالجماعات الإسلامية عباس شريفة أن تحرك “هيئة تحرير الشام” باتجاه المجتمع الدولي “لا يدخل ضمن تغيير شامل في بنية وفكر ودور الهيئة، وليس مناورة سياسية”، مضيفاً “يمكننا القول إنه محاولة بحث عن تغيير الدور من قوة تابعة إلى القاعدة، أو مقاتلة للنظام، إلى سلطة محلية معترف بها من الخارج وغير مستهدفة لضمان ديمومة الوجود والسلطة”. وتابع “تحرير الشام اليوم تحاكي تصرفات أنظمة القمع والاستبداد والسطو على السلطة في العالم الثالث. فالأنظمة المستبدة والتنظيمات التي تسعى لتكون نسخة عنها، أو بديلاً وظيفياً، تدرك أن طريق الوصول إلى السلطة، هو القيام بدور وظيفي تؤديه للخارج، مقابل الاعتراف بها وعدم الاستهداف، والدعم في مرحلة لاحقة وبشكل مباشر، مع التعامل مع المدنيين بوسائل قمعية، من سجون وفساد وقبضة أمنية وفرق اغتيالات وتقديم الخدمات الأمنية للدول”. وأعرب شريفة عن اعتقاده بأن فرص نجاح الهيئة في مسعاها “محدودة وآنية”، مشيراً إلى أنها تقوم “بإدارة الفوضى وضبطها ضمن حدود النزاع وعدم امتدادها للخارج والدول المجاورة”. وأوضح أن “تحرير الشام تقوم بضبط حركة النزوح وضرب التنظيمات المتشددة وتنفيذ مخرجات أستانة، وحماية الدوريات الروسية التركية المشتركة”. وأشار إلى أن “كل هذا الحضور هو جزء من المشهد المؤقت”، مضيفاً أن “المشهد المستقبلي لسورية مرتبط أساساً بالحل السياسي وفق القرارات الدولية واللجنة الدستورية والانتخابات، وتحرير الشام لا تشكل أي جزء أو حضور من ذلك المشهد”.
وبدأت الهيئة نشاطها في سورية تحت مسمّى “جبهة النصرة”، التي اقتحمت المشهد الثوري في العام 2012 بحركة استعراضية من خلال محاولة اقتحام مبنى هيئة أركان قوات النظام الحصين في دمشق، قبل أن تسيطر على مساحات هائلة من سورية. ومرت “جبهة النصرة” بتحولات متعددة تحت ضغط كبير من الشارع السوري المعارض، حيث اضطرت إلى إعلان فكّ ارتباطها بتنظيم “القاعدة” وتغيير اسمها إلى “جبهة فتح الشام” منتصف 2016. وفي بداية 2017 دخلت الجبهة في اقتتال دامٍ مع فصائل المعارضة لتفرض سيطرة شبه مطلقة على الشمال الغربي من سورية، لتدخل بعد ذلك في تحالف جديد مع مجموعات تتشارك معها في المنهج والرؤية، تحت مسمّى جديد هو “هيئة تحرير الشام”.
المصدر: العربي الجديد