البودكاست وضحاياه

بسمة النسور

تعرّض رئيس الوزراء الأردني السابق بشر الخصاونة لهجمة إلكترونية شديدة اللهجة، وغير مسبوقة، على إثر اقتطاع تصريحات أطلقها في لقاء “بودكاست” من سياقها في المقطع الترويجي، قبل أن تبث المقابلة كاملة. والبرنامج الذي ظهر فيه الخصاونة، يستضيف سياسيين وكتّاباً وفنانين ورياضيين وطهاة ونجوم مجتمع ومؤثّرين، يلقى إقبالاً جماهيرياً واسعاً في مختلف أنحاء العالم، لتنوّع الضيوف المشاركين وجرأة طرح المواضيع غير الخاضعة للرقابة. وبعض مقدّمي هذه البرامج نجوم معروفون على مستوى العالم مثل الإعلامي الأميركي جو روغان، الذي التقى عالم الآثار المصري زاهي حواس في بودكاست تابعه الملايين، وصفه روغان باللقاء الأسوأ في تاريخ حياته المهنية، واعتبره فضيحةً وطرفةً مضحكةً، إذ ظهر فيه حواس هجومياً وانفعالياً، وغير متمكّن ولا قادر على عرض أفكاره بهدوء ورويّة، خصوصاً بتكراره جملة “المعلومات في كتابي” ردّاً على سؤال: أين مصادرك؟
اقتطاع كلام الخصاونة قدم معنىً معكوساً تماماً، ينطوي على إساءة كبرى للدولة الأردنية، رغم محاولات التوضيح وإعادة نشر المقطع الأصلي، غير أن الجمهور المستفز الجاهز للإدانة من دون تمحيص أو تدقيق، ظلّ على موقفه العدائي، وواصل بثّ التعليقات المسيئة.
ووقعت عازفة قانون وأكاديمية موسيقية أردنية في الفخّ ذاته، وتعرّضت لهجمة مؤسفة إثر ظهورها في “بودكاست”، قالت فيه كثيراً من المعلومات القيّمة والجدّية عن تاريخ الموسيقى والأغاني التراثية، لم يلتفت المتابعون إلى أيٍّ منها، وصبّ جلّ تركيزهم في إجابة عفوية تخصّ حياتها الخاصة لم تكن موفّقة فيها، فواجهت عاصفة شتائم وسخرية نالت من شخصها ومن اسم عائلتها، وتضمّنت كثيراً من التعليقات القبيحة المسيئة، بل الوقحة بشكل كبير، ولا سيّما تلك التي تناولت أموراً شكليةً من دون التفات إلى المضمون العلمي الذي قدّمته، ما يدلّ على عدائية جمعية كامنة لمجتمع من المصطادين في الماء العكر، المنتظرين الشخص على غلطة في تقدير الموقف أو زلّة لسان غير مقصودة قد يتعرّض لها أيٌّ منّا، كي يصبح لقمةً سائغةً ينفّسون من خلالها عن أحقادهم الدفينة تجاه أيّ رمز ناجح يعملون على إهانته والتقليل من شأنه (وتكسير مجاذيفه)، هكذا بالمجان، تأكيداً لحالة الحقد والغيرة والسواد التي باتت سائدةً في وقتنا الراهن.
من هنا، لا بدّ للمدعوين إلى مثل هذه اللقاءات من الانتقاء وتوخّي الدقّة والحذر، والانتباه قبل الموافقة على الظهور، لأن بعض مقدّمي “البودكاست” من غير الإعلاميين المحترفين الباحثين عن الإثارة وحصد الـ”لايكات” يتعمّدون توريط ضيوفهم ودفعهم إلى الإدلاء بتصريحات إشكالية من شأنها إثارة الجدل، ليس بالمعنى الإيجابي بطبيعة الحال، بل بهدف استجلاب مقصود للتعليقات السلبية من شتائم وإهانات من شأنها رفع نسب المشاهدة، وعلى المدعوين إلى هذه اللقاءات التريّث قبل الاندفاع في إجابات متهوّرة قد تصلح وتَمرّ في جلسة بين أصدقاء حميمين بإمكانهم التظارف والتخبيص فيما بينهم من دون التعرّض للتشهير وأحياناً المساءلة القانونية.
وعلينا الانتباه أكثر عند الجلوس خلف “ميكروفون” في مناسبة عامة، لأن الكلمة، سواء أكانت رزينةً أم طائشةً، فهي محسوبة علينا، وقد تصبح وثيقةً ضدّنا، ولن ينفع بعدها أيّ اعتذار أو توضيح. مثلما جرى مع الفنّانة المصرية يسرا، حين روت في ندوة عامة، بحضور جمهور وإعلاميين وكاميرات محطات فضائية، حكايةً المفترض أنها طريفة، غير أنها تنطوي على معنى مزدوج يتضمّن إيحاءً جنسياً لم تقصده الفنّانة، لكن المتابعين تمسّكوا بالمعنى غير البريء، ولاقت ما لاقته من تجريح وتلميح وهجاء. ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى بعض مشتركي “فيسبوك”، ممن يفتعلون المعارك والخصومات من باب تزجية الوقت، وينهمكون في التراشق العبثي بالألفاظ، فيجلبون على أنفسهم الشتيمة وقلّة القيمة.
وفي جميع الأحوال، علينا ألّا ننسى الحكمة البسيطة والعميقة القائلة: “لكل مقامٍ مقال”. نجّانا الله وإيّاكم من شهوة الظهور المدمّرة!

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى