
في تقرير مطوّل قدّمته الجامعية والخبيرة الفرنسية ستيفاني بالم، منذ أسابيع قليلة (15 أكتوبر/ تشرين الأول 2025)، عن واقع الحريات الأكاديمية في فرنسا، لفائدة جامعة فرنسا، وفي ندوة سنوية لرؤساء الجامعات الفرنسية، بعنوان: “الدفاع عن الحريات الأكاديمية والنهوض بها… رهان عالمي وضرورة عاجلة لفرنسا وأوروبا (تشخيص و65 مقترحاً)”. قدّمت الباحثة والخبيرة المرموقة رصداً دقيقاً لمختلف أشكال انتهاكات الحقوق الأكاديمية في فرنسا وبعض البلدان الأوروبية الأخرى، صنّفتها ما بين سافر وناعم، وقدّمت أمثلة عديدة على غرار الضغوط الأيديولوجية، وإلغاء المحاضرات، والتحيّز لوجهة واحدة وتغييب الاختلاف والتعدّد في المواقف والآراء، وحملات الوصم والتمييز التي لاحقت المدرّسين والباحثين في شبكات التواصل الاجتماعي، وتدخّلات المسؤولين السياسيين في الشأن الأكاديمي من خلال المجالس الإدارية، والتضييق على النفاذ إلى المعلومة والبحث الميداني.
فرنسا مرشّحة لأن تشهد انحداراً غير محمود يمسّ الحريات الأكاديمية، وحتى الأساسية في الفضاء الجامعي
يُشكّل إلغاء السلطات الفرنسية (وزارة التعليم العالي والبحث العلمي) استضافة “الكوليج دو فرانس” مؤتمر “أوروبا وفلسطين… ثقل الماضي وديناميات الحاضر”، المشترك بين المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـ فرع باريس و”كوليج دو فرانس”، بمشاركة ثلّة من أبرز الجامعيين والأكاديميين الأوروبيين المختصّين في العالم العربي والشرق الأوسط تحديداً، انتهاكاً جسيماً للحريات الأكاديمية، وقد لا يكون له مثيل في التاريخ المعاصر للجامعات الفرنسية برمّتها. وهو مؤشّر آخر على تراجع الحريات الفكرية والأدبية عموماً في فرنسا خلال السنوات الماضية، وربّما تتالت هذه تحت وطأة مشاعر الإسلاموفوبيا التي تكثّفت حتّى في الأوساط الفكرية والثقافية والفنّية، فضلاً عن ضغوط رهيبة مسلّطة من اللوبي الصهيوني، مستغلاً حصانةً تمنحها لهم معاداة السامية. ولكن علينا ألّا تنسينا هذه البادرة المُشينة سوابق خطيرة قد تكون مهّدت لهذا الإجراء. فلقد ضيّقت فرنسا خلال تسعينيّات القرن الفارط على الفيلسوف روجيه غارودي حين كتب بعض المؤلفات المناهضة للصهيونية، مفنّداً أساطيرها الفلسفية والعقدية، خصوصاً في كتابه الشهير “الأساطير المُؤسِّسة للسياسة الإسرائيلية”. وفيه وقف طويلاً عند الخرافات الحيّة التي شكّلت العقل السياسي الإسرائيلي، علاوة على استغلال الصهيونية للمحرقة من أجل الهيمنة على العالم وابتزاز الغرب بها من أجل التمتّع بحصانة أبدية. ولعلّ الكتاب الثاني الذي تُرجم إلى العربية “محاكمة جارودي”، هو الكتاب الذي منح خصومه الفرصة لاتهامه بأنه “فيلسوف المحرقة”. والحال أنه وضعها في سياقها، بعيداً من أيّ توظيف سياسي من أجل الابتزاز وتشكّل زبونية عالمية، كما قال في مقالاته اللاحقة، رغم أنه عانى العزلة والوحدة والوصم كثيراً حتّى وفاته.
أمّا عالم الإسلاميات الفرنسي فانسون غيسار، فأحيل في 2009 على مجلس التأديب بالمركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا، الهيئة العلمية المرموقة، بتهم “سخيفة”، تدور حول تهديد الأمن الوطني، ووُجّه له توبيخ. والحال أنه علّق مندّداً بالتضييق على الباحثات المحجّبات، ولا يزال يعاني مختلف أشكال الوصم، ولم يسلم منها حتّى في بعض الدول العربية ومنها تونس، تحت وطأة ضغط اليسار الفرانكفوني تحديداً. ولقد تواصلت انتهاكات الحقوق الأكاديمية مرّات عديدة، وكان من ضحاياها أيضاً أستاذ العلوم السياسية والمختصّ في الإسلاميات فرانسوا بورغا، الذي أُوقف وأُطلق سراحه لاحقاً، وأُخضع لسلسلة من المحاكمات، لا يزال بعضها جارياً، بذريعة “تمجيد الإرهاب”. وقد دافع بورغا في إحدى تدويناته عن حقّ الفلسطينيين في المقاومة، مثل ما فعلت فرنسا حين احتلّها النازيّون، ومثلما تؤكّد الأمم المتحدة في ديباجتها حقّ الشعوب في المقاومة.
إنه نفوذ اللوبي الصهيوني في فرنسا الذي استطاع أن يتسلّل كالأخطبوط، وأن يمتدّ ليتوغّل في الأوساط الجامعية والإعلامية والثقافية. فلقد اتخذ مجلس الدولة الفرنسي قراراً بمنع عروض الفنّان الفكاهي الفرنسي ديدونييه سنة 2020، كما قرّرت منصّتا فيسبوك وإنستغرام حظر عروضه بدعوى السخرية من ضحايا المحرقة. واتّخذ الهجوم الإرهابي على الصحيفة الساخرة شارلي إيبدو، الذي راح ضحيته 12 ما بين صحافي وموظف، علاوة على عشرات الجرحى، ذريعةً لتوسيع وتكثيف هذه الانتهاكات الخطيرة، سواء للحريات الأكاديمية أو الأساسية المتعلّقة بحرية التفكير والتعبير… إلخ.
ظلّت الحقوق الأكاديمية في فرنسا “يتيمة”، على خلاف الحقوق الأساسية التي تشكّل حولها إجماع وثقافة راسخة
وعلى خلاف الحقوق الأساسية التي تشكّل حولها إجماع وثقافة راسخة، فإنّ الحقوق الأكاديمية في فرنسا ظلّت “يتيمة”، وكأنها شأن لا يخصّ إلّا الجامعيين ومسألة تُدار بين جدرانها. لذلك؛ لا تهزّ الرأي العام ولا تشكّل قضية رأي عام تُعبّأ حولها النضالات الواسعة. وتنتهي الباحثة في التقرير الذي أشرنا إليه أعلاه إلى أن فرنسا مرشّحة، ما لم تقم بإصلاحات شاملة على المستوى التشريعي والتنظيمي والإداري وحتّى الثقافي، لأن تشهد انحداراً غير محمود يمسّ الحريات الأكاديمية، وحتى الأساسية في الفضاء الجامعي. ولعلّ ما حدث في الأيام القليلة الفارطة مع فرع “المركز العربي” في باريس، وفي أعرق مؤسّساتها الأكاديمية (كوليج دو فرانس)، يقيم البرهان على صحّة توقّعاتها ودقتها. لم يعد اللوبي الصهيوني في فرنسا يتحكّم في رقاب الساسة فحسب، ليملي عليهم رؤاه ومواقفه، بل تسرّب إلى أعماق العقل الفرنسي بالمعنى الشامل للكلمة.
المصدر: العربي الجديد






