المرأة.. السلاح غير المعلن في النزاعات

وفاء علوش

بعد اندلاع الثورة في سوريا، وما أعقبها من مواجهات مسلّحة، وسقوط مناطق، وتحولات سياسية وأمنية، ظلّت النساء والمجتمعات النسوية ضمن أبرز الفئات المتأثرة، كما برزت أنماطٌ جديدة من الانتهاك – أو امتدّت أنماطاً كانت قائمة فيما مضى – كانت تستهدف النساء بصفتهنّ رموزاً اجتماعية أو أدواتٍ عملية في لعبة الضغط والتبادل بين الأطراف المتنازعة.
في عهد الأسد، تحوّلت النساء إلى أدوات ضغط في آلة القمع، فلم يكتفِ النظام باعتقالهنّ، بل استخدم معاناتهنّ كسلاحٍ لكسر المجتمع بأكمله، إذ تعرّضت المعتقلات لشتى أنواع الإهانة الجسدية والنفسية، ليس فقط لمعاقبتهنّ على موقف أو كلمة، بل لإذلال الرجال من حولهنّ وإخضاع البيئات الثائرة. ومع أنّ النظام حاول على الدوام تلميع صورته عبر جمعيات نسائية ووجوه إعلامية “ناعمة”، فإنّ ذاكرة السوريين ظلّت مثقلة بصور النساء المفقودات والمغتصبات والمغيّبات خلف الجدران.
شهدت المناطق في تلك الأثناء تغيّرات ميدانية وأمنية واجتماعية، ويمكن ملاحظة أن النساء – سواء من ساكنات المنطقة أو من المجتمعات النازحة – كنّ يتعرّضن لمخاطر إضافية. فبحسب تقرير UNFPA لعام 2024، فإنّ النساء والفتيات في سوريا يُواجهن “أشكالاً متزايدة من العنف القائم على النوع الاجتماعي” في ظلّ التغيّرات المتسارعة. وكذلك أشارت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقريرها السنوي إلى أنّ آلاف النساء قُتِلن وأُخِذن رهائن أو تعرّضن لاعتداءات جنسية، وهو ما يكشف أن العنف ليس مجرد انعكاسٍ جانبي للصراع، بل استُخدم كجزء من ديناميةٍ متشعّبة.
إنّ النساء اللواتي يُختطَفن أو يُحتجزن أو يُستهدَفن بهذا الشكل يعانين من آثارٍ جسديةٍ ونفسيةٍ واجتماعيةٍ، منها العنف الجنسي أو التهديد باستعماله.
لقد مهّدت هذه التغيّرات لانتهاكاتٍ قد لا تكون ممكنةً بالدرجة نفسها في أثناء المواجهات الميدانية الصعبة، وأصبحت أكثر تنظيماً بعد إحكام السيطرة على المناطق. وأُعيد النظر إلى النساء ليس كمدنياتٍ فقط، بل كأوراقٍ ضمن شبكةٍ من الضغوط النفسية والاجتماعية والاقتصادية.
في سياقٍ متصل يمكن رصد أسلوبٍ آخر لاستخدام النساء كورقةٍ في الصراع، من خلال توجيه الشتائم والإهانات والتشهير بالنساء أو بأسرهنّ كأداة إخضاعٍ جماعي. وقد يتخذ هذا الأسلوب أشكالاً متعددة، مثل نشر إشاعاتٍ عن اختطاف أو اعتداءٍ على نساء بهدف زعزعة ثقة المجتمع بقدراته على الحماية أو ردّ الاعتبار، وذلك عبر وسائل التواصل أو عبر خطاباتٍ محلية. ما يؤدّي إلى إضعاف الجانب المعنوي للطرف الآخر، فاستخدام الاعتداء على امرأة أو استهدافها يمثّل رسالةً رمزية بأنّ الطرف المسيطر قادرٌ على اختراق الخصم إلى الداخل، ليس فقط عسكرياً بل اجتماعياً أيضاً.
تاريخياً، وفي حروبٍ مختلفة، كان الجنود يمعنون في إذلال النساء، سواء احتفالاً بانتصارٍ أو للضغط على الخصم في النزاع أو لاستخدامهنّ كورقة مساومةٍ وتفاوض. فنلاحظ وجود عمليات اختطافٍ واغتصابٍ وتغييبٍ واحتجاز، بما يحقق الإخضاع النفسي والاجتماعي للمجتمع. فعندما تُستهدف نساء من مجتمعٍ معيّن، يكون التأثير ليس فقط على الضحية، بل على الأسرة والجوار والمجتمع ككل، مما يُضعف قدرته على الردّ أو المقاومة. كما أنه، وفي سياقات الصراع المجتمعي أو الطائفي، يُصار إلى استهداف نساء المجتمع كجزءٍ من عقابٍ جماعي أو إرسال رسالة ردع.
وعلى الرغم من أن استخدام النساء غايته إخضاع المجتمع، فإنّ النساء اللواتي يُختطَفن أو يُحتجزن أو يُستهدَفن بهذا الشكل يعانين من آثارٍ جسديةٍ ونفسيةٍ واجتماعيةٍ، منها العنف الجنسي أو التهديد باستعماله، وفقدان الأمان، والشعور بالخوف الدائم، واللجوء إلى الصمت بسبب الوصمة أو الخوف من الانتقام وصعوبة العودة إلى المجتمع. إذ قد تُواجَه الضحية أو أسرتها بالنظر إليها باعتبارها عاراً، مما يعيق إعادة إدماجها.
من الضروري أن تُحترم كلمات الناجيات، وأن تُبنى الاستجابة على توثيقٍ مستقلٍّ وحمايةٍ صارمة، حتى لا تتحوّل المظلومية الحقيقية إلى ذريعةٍ تُستغل لصالح أجنداتٍ لا علاقة لها بكرامة النساء أو بخلاص المجتمعات.
حريٌّ بنا القول إنّ استهداف النساء وسهولة الوصول إليهنّ يقوّض الثقة الداخلية بين أفراد المجتمع (الجيران، العائلات، الأصدقاء)، ويزرع شعوراً بغياب الحماية، ويخلق فجوةً بين المواطن والدولة ومؤسساتها، بحيث لا يجد المواطن في حكومته الحماية الكاملة حتى وإن لم تكن فاعلاً حقيقياً في الصراع. كذلك يُضعف قدرة المجتمع على العمل الجماعي، إذ تحجم النساء عن المشاركة في الحياة العامة أو في مبادرات المصالحة أو إعادة البناء. كما يزيد من عمليات النزوح والهجرة، لأنّ العائلات تبحث عن بيئةٍ أكثر أماناً، وبذلك يُصبح التغيير الديموغرافي عنصراً من عناصر السيطرة أو الإخضاع.
ما زال السياق السوري يعاني من فوضى في الاستقرار المجتمعي، تتجاذبه أطرافٌ تحاول الدفع به إلى اقتتال، وتتوالى أنباء اختطاف النساء وسط كلّ ذلك من دون أن نجد جهةً محايدة توثّق الحالات. وفي ظلّ غياب بنيةٍ قانونيةٍ رادعة تمنع استخدام النساء كورقة، يُضاف إلى ذلك وجود معوّقاتٍ تمنع التوثيق الدقيق والحيادي. وعلى الرغم من وجود تقارير مثل SNHR أو UNFPA، فإنّ كثيراً من الحالات لا تُوثّق أو يجري إخفاؤها بسبب الخوف أو غياب الوصول. كما أن أعداداً كبيرة من النساء لا يبلّغن عن الاعتداءات أو الخطف خوفاً من العار أو من أن تُعدّ الضحية مذنبة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن القضايا قد تُطوى لدوافع طائفية أو سياسية أو اقتصادية أو جنسية، مما يجعل تحديد المسؤولية أمراً معقّداً.
تتبدّى مسؤولية الدولة بضرورة تعزيز التوثيق والشفافية، ودعم الاستقلالية في جمع البيانات، وتوفير الحماية للنساء من الانتقام، وضمان وصول هذه البيانات إلى جهات تحقيقٍ محايدة، وتقديم خدماتٍ شاملةٍ للناجيات من الدعم الطبي والنفسي إلى القانوني والاقتصادي، مع مراعاة خصوصيات السياق السوري كالنزوح والتشتت والخوف من العار. فيما يتحتم على المجتمع تحمّل مسؤوليته بإطلاق حملاتٍ محلية تركّز على ضرورة صون النساء وتشجيع المجتمعات على رفض الوصمة ودعم الناجيات.
تغيّرت موازين السيطرة في سوريا كثيراً في مناطق معيّنة، وكانت النساء الحلقة الأضعف التي تُستهدف بعد أي تغيير، لأغراضٍ انتقاميةٍ أو للحصول على فدية، أو للضغط لتبادل أسرى، أو بعث رسالة ردعٍ للمجتمع الآخر، أو حتى كوسيلةٍ للعقاب الجماعي. وفي حالاتٍ أخرى تُستخدم هذه الممارسات لتلويث سمعة مجموعاتٍ أو دفع مجتمعاتٍ بأكملها نحو انكسارٍ اجتماعي وخضوعٍ سياسي، بغرض بثّ الخوف والإذلال بين السكان المدنيين.
إلى جانب العنف الجسدي، صاغت الأطراف المتنازعة بشكلٍ متبادلٍ هجوماً بلغةٍ طائفيةٍ أو عرقيةٍ أو مستخدمةً الطعن بالشرف كنوعٍ من العنف الرمزي، وهو ما يفاقم ندوب العنف الجسدي ويُصعّب عملية العودة والاندماج.
تعيش البلاد فوضى تقاذف الاتهامات، وهذا نتيجةٌ لغياب آلياتٍ موضوعيةٍ وحياديةٍ في توثيق الحالات ومتابعتها والتحقيق فيها. والالتزام بالحيادية هنا لا يعني التكتم أو التهوين، بل الرغبة في فهم الآليات حتى يمكن معالجتها بفاعلية، وتوضيح أن توجيه الاتهام بشكلٍ تلقائي لطرفٍ واحد قد يُغلق نافذة تحقيقاتٍ موثوقة ويُبعد فرصة المحاسبة الفعلية، بينما يتيح التحليل الموضوعي ورفع الشكاوى وتوثيق الحالات أمام جهاتٍ مستقلةٍ إمكانيّة مساءلةٍ أوسع.
إنّ استخدام النساء وجعلهنّ جزءاً من آلة الحرب فعلٌ مشينٌ ينبذه الضمير الإنساني، بل إنه أمرٌ مخزٍ أيضاً. لكنه يحمل الصفات نفسها عندما يُستغلّ ادّعاء الاختطاف كأداةٍ لحشد التعاطف أو المكاسب السياسية، وتأطير معاناة النساء في خطابٍ تكتيكي يرسّخ خلق مظلومية.
إنه آلية لإعادة إنتاج العنف بوجهٍ آخر، كما أنه يحرم الضحايا الحقيقيين من فرصة تحقيق العدالة ويعرقل مسارها، ويشتّت سرديتهم بين رواياتٍ مختلقة لا طائل منها سوى تقويض المصداقية بروايات الناجيات، ويحوّل الألم إلى سلعةٍ تُتاجر بها الخطابات.
لذلك من الضروري أن تُحترم كلمات الناجيات، وأن تُبنى الاستجابة على توثيقٍ مستقلٍّ وحمايةٍ صارمة، حتى لا تتحوّل المظلومية الحقيقية إلى ذريعةٍ تُستغل لصالح أجنداتٍ لا علاقة لها بكرامة النساء أو بخلاص المجتمعات.
لقد ظهر زجّ النساء في الصراعات بوضوحٍ كأداة إخضاعٍ تحمل أبعاداً جسديةً ونفسيةً ورمزيةً، ولكن المقاربة الحيادية النقدية يجب أن تبتعد عن التهجم الفوري على أيّ طرف، وتعمل بدلاً من ذلك على توثيق الأفعال، وحماية الضحايا، وملاحقة مرتكبي الانتهاكات أمام آلياتٍ قضائيةٍ مستقلة، ما سيمنح المجتمع فرصةً أفضل للشفاء والبناء. كما إنّ إخراج النساء من أتون الصراعات وكسر حلقة الإهانة والوشاية والوصمة هو خطوةٌ ضرورية لتمكين النساء من استعادة مكانتهنّ كعنصرٍ فاعلٍ في إعادة إعمار الحياة العامة، وليس كرهائن للسياسة أو الحرب.
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى