الشائعات السياسية وحزبٌ جديد

في أروقة السياسة السورية، حيث تتقاطع خيوط التحولات التاريخية مع شبكات الشائعات الإعلامية، برز مؤخراً خبر مثير للجدل يتحدث عن تحضيرات سرية لتأسيس حزب سياسي جديد يتبع مباشرة للرئيس أحمد الشرع، بإشراف الأمانة العامة للشؤون السياسية التابعة لوزارة الخارجية السورية. نشرته صحيفة “المدن” اللبنانية في 29 أكتوبر 2025، مستندة إلى مصادر غير معلنة، وسرعان ما انتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، متحولاً إلى مادة خصبة للتكهنات والمخاوف.
يصف الخبر العملية بأنها “شبه سرية”، تشرف عليها شخصيات مثل وزير الخارجية أسعد الشيباني، وتستبق إصدار قانون الأحزاب الجديد المنصوص عليه في الإعلان الدستوري لعام 2025.
وهنا نقول، هل هذا الخبر أكثر من مجرد وهم إعلامي يهدف إلى زعزعة الاستقرار الناشئ في المرحلة الانتقالية؟
جذور الشائعة: سياق التحولات السياسية في سورية 2025
لنبدأ بفهم السياق الذي أنجب هذه الشائعة، في 29 يناير 2025، عقد “مؤتمر إعلان انتصار الثورة السورية” في قصر الشعب بدمشق، حيث أُعلن تعيين أحمد الشرع رئيساً انتقالياً للبلاد، مع إلغاء فوري للعمل بدستور 2012، وحلّ حزب البعث العربي الاشتراكي وجميع أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وما يتبعها من منظمات ولجان.
كان هذا القرار، الذي أعلنه العقيد حسن عبد الغني، المتحدث باسم إدارة العمليات العسكرية، خطوة جذرية لإنهاء ستة عقود من الهيمنة الحزبية الشمولية التي بدأت مع انقلاب 1963م، واستمرت تحت حكم عائلة الأسد.
أدى ذلك إلى فراغ سياسي هائل، أدركته الإدارة الجديدة بسرعة، فشكلت لجاناً لصياغة إطار انتقالي، وفي 13 مارس 2025، وقع الرئيس الشرع على الإعلان الدستوري المؤقت، الذي حدد المرحلة الانتقالية بخمس سنوات (من 2025 إلى 2030)، ونص في مادته الثالثة على كفالة حرية تشكيل الأحزاب السياسية على أسس وطنية، مع حظر الأحزاب الطائفية أو العرقية، وتعليق أي نشاط حزبي حتى إصدار قانون خاص ينظم الترخيص والرقابة.
كان هذا الإعلان، الذي صدر بعد حوارات وطنية مكثفة انتهت بمخرجات مؤتمر الحوار الوطني في 25 فبراير 2025، خطوة نحو التعددية الحقيقية، مستوحاً من روح دستور 1950م الذي كفل الحريات الأساسية قبل انقلابات البعث.
ومع ذلك، أثار الإعلان جدلاً، إذ رفضته قوى كردية مثل مجلس سورية الديمقراطية، معتبرةً إياه تراجعاً عن اتفاقيات اللامركزية مع قوات سورية الديمقراطية في 11 مارس 2025.
وفي هذا الفراغ، أصدرت وزارة الخارجية في 27 مارس 2025 القرار رقم 53 بإنشاء “الأمانة العامة للشؤون السياسية”، كجهاز إداري يشرف على النشاطات السياسية المؤقتة، ويُعيد توظيف أصول حزب البعث (مثل المباني والموارد) لأغراض وطنية، دون أي إشارة إلى تأسيس أحزاب.
كانت هذه الخطوة ضرورية لملء الفراغ، خاصة مع الانتخابات البرلمانية الأخيرة في أكتوبر 2025م، حيث منح قانون الانتخابات الرئيس صلاحية تعيين ثلث المقاعد، مع التركيز على التمثيل الشامل.
لكن، في 29 أكتوبر 2025، جاء خبر “المدن” ليحول هذه الجهود إلى شائعة عن الشروع في تأسيس “حزب حاكم” جديد، مستغلاً الغموض الإعلامي ليثير الشكوك حول نوايا الإدارة الجديدة.
حول الإمكانية:
الفكرة الأساسية للخبر – تأسيس حزب يتبع الرئيس الشرع – تبدو جذابة لمن يبحث عن “العدو الجديد” في كل تحول، لكنها تتهاوى أمام التحليل العقلاني!.
أولاً، تتعارض مع جوهر الإعلان الدستوري، الذي يؤكد في مادته الثانية على “السيادة الشعبية” و”فصل السلطات”، مما يجعل أي حزب “تابع” للرئيس انتهاكاً مباشراً لمبدأ التعددية الذي تعهد به الشرع في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 5 أكتوبر 2025.
فكيف يمكن لإدارة أعلنت حل البعث في 29 يناير 2025، وأعادت بناء الجيش السوري على أسس وطنية في 2 فبراير 2025، أن تعود إلى نموذج الحزب الحاكم الذي دمر الدولة؟
هذا تناقض يسفِّه الرواية، إذ يشبه ادعاء أن الثورة الأمريكية 1776م أسست حزباً لجورج واشنطن، في تجاهل واضح للسياق التاريخي.
ثانياً، يعتمد الخبر على مصادر “مطلعة” غير محددة، في زمن يعج بالتسريبات المصطنعة لأغراض خارجية.
فتاريخياً، شهدت سورية شائعات مشابِهة، مثل تلك التي انتشرت في 2011 عن “حزب الأسد السري”، والتي ثبت كذبها لاحقاً كأداة للدعاية الإقليمية.
واليوم، مع التوترات الإقليمية – مثل محاولة اغتيال الشرع في 27 يونيو 2025 بتخطيط مشترك لحزب الله وداعش – يصبح الخبر أداة للتشكيك في الشرعية الداخلية، وربما من جهات تخشى عودة سورية إلى الاستقرار الإقليمي، كما في زيارة الشيباني إلى لبنان في يوليو 2025 لتعزيز العلاقات الثنائية بعيداً عن الوصاية الإيرانية.
ثالثاً، تسفيه الفكرة يأتي من النظر في الديناميكيات الداخلية، فالإدارة الجديدة واجهت تحديات حقيقية، مثل دمج قوات سوريا الديمقراطية في 11 مارس 2025، وإعادة بناء الاقتصاد بعد عقوبات الأمم المتحدة التي خففت جزئياً في أبريل 2025.
إن أي حزب “جديد” الآن سيزيد التوترات، ولا يعزز الوحدة، وسيكون مخالفاً لتعهد الشرع في 30 يناير 2025 بـ”ملء فراغ السلطة بالسلم الأهلي”.
لننتقل إلى الجوهر: الخبر غير صحيح، ويُثبت ذلك تحليل عقلاني يعتمد على أدلة دقيقة.
أولاً، نفت مصادر رسمية في وزارة الخارجية السورية الخبر مباشرة لصحيفة “المدن” في 30 أكتوبر 2025، مؤكدة أن مهام الأمانة العامة للشؤون السياسية تقتصر على “ملء الفراغ بعد إلغاء البعث، وضمان عدم سرقة أو سوء استخدام الموارد والعقارات”.
هذا النفي هو تأكيد لدور الأمانة كجهاز إداري انتقالي، كما في القرار 53 لعام 2025، والذي يركز على “تنظيم الفعاليات السياسية” دون أي إشارة إلى تأسيس أحزاب.
ثانياً، الإعلان الدستوري في 13 مارس 2025 يعلق النشاط الحزبي صراحة حتى إقرار القانون الجديد، الذي لم يُقرَّ بعد في مجلس الشعب المؤقت، فأي تحضيرات “سرية” الآن ستنتهك هذا الإطار، وتتعارض مع اتفاقية دمشق مع قوات سوريا الديمقراطية في 11 مارس 2025، والتي شددت على “التعددية دون هيمنة”.
ثالثاً، بعد حل البعث في 29 يناير 2025، أُعيد توظيف أصوله (مثل 200 مبنى في دمشق وحدها) لأغراض إدارية، كما في تقرير وزارة المالية في مايو 2025، والذي أكد استخدامها لمكاتب حكومية، لا حزبية.
إن الرئيس اليوم هو لكل السوريين
في قلب هذا التحول السوري الكبير، وهنا نرى ضرورة كون الرئيس أحمد الشرع رمزاً للوحدة الوطنية، لا مجرد زعيم حزبي محدود، ونستذكر هنا خطابه الأول حين أكد بقوله: “أنا رئيس لكل السوريين، لا لفصيل أو طائفة”، متعهداً ببناء دولة مدنية تضمن الحقوق للجميع.
الحجة هنا عقلانية وأخلاقية، فأي حزب يُؤسَّس باسمه يقسم هذه الوحدة، محولاً الرئيس إلى “زعيم حزبي” وشتان بينه وبين ما فعله حافظ الأسد مع البعث في 1970م، ما أدى إلى انقلابات وصراعات داخلية.
تاريخياً، نجحت الدول الانتقالية – مثل جنوب أفريقيا بعد الأبارتهايد في 1994 – عندما بقي مانديلا فوق الأحزاب، رمزاً وطنياً.
وفي سورية، زيارة الشرع للسعودية في فبراير 2025، وتلاقيه مع دبلوماسيين أوروبيين في 3 يناير 2025، أكدتا دوره كواجهة وطنية، لا حزبية.
فلو أسس حزباً، لفقد ثقة المكونات السورية التي تراه محرراً وقائداً وطنياً!.
الالتباس في المقرات: حقيقة يجهلها الكثيرون
أحد أبرز مصادر الشائعة هو الالتباس حول الأمانة العامة للشؤون السياسية، التي انتقلت إلى مقرات حزب البعث الملغى. وهذه معلومة حاسمة يجهلها كثير من السوريين، مما يغذي الشكوك.
ففي 27 مارس 2025، أصدرت الوزارة القرار 53، الذي خصص للأمانة مباني البعث في دمشق (مثل مقرات القيادة القطرية) لأغراض إدارية، لضمان “إعادة توظيف الأصول بما يخدم المهام الوطنية”.
كان ذلك ضرورياً بعد حل البعث في 29 يناير 2025، حيث عاد 500 مبنى وأرض إلى الدولة، لكن، هذا لا يعني أن المقرات ستُستخدم لـ”حزب جديد”.
خاتمة:
إن الشائعة عن حزب الشرع ليست سوى وهم إعلامي يسعى لتسفيه جهود البناء الوطني، ويضرب فكرة التعددية الحقيقية التي بدأت تتشكل مع الإعلان الدستوري وانتخابات مجلس الشعب.
واليوم تقف سورية أمام فرصة تاريخية لبناء دولة تعددية ليس فيها بعث آخر، وهنا يجب على السوريين المؤمنين بإنجازات ثورتهم التمييز بين الحقيقة والوهم، وليكونوا صنّاعاً للمستقبل، لا ضحايا الشائعات.

المصدر: تيار المستقبل السوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى