إسرائيل وحلف الأقليات 

عدنان علي

منذ منتصف ستينات القرن الماضي، تحاول إسرائيل إقامة “حلف” مع الأقليات في المنطقة، وخصوصاً الأكراد. وكانت أوضح اتصالاتها مع الزعيم الكردي مصطفى البرزاني الذي زار إسرائيل بعد نكسة حزيران 1967

وفي تأكيد على هذا النهج، قال وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر خلال لقاء مع موظفي وزارته نهاية العام الماضي، إن إسرائيل موجودة في منطقة هي أقلية فيها، ولذلك فإن تحالفاتها الطبيعية هي مع الأقليات الأخرى، مثل الدروز في سوريا ولبنان، والأكراد في كل من سوريا والعراق وإيران وتركيا.

ومن المعروف أنه كان لإسرائيل اتصالات، وقدمت دعماً عسكرياً لبعض الأطراف اللبنانية، المارونية تحديداً، بدءاً من الرئيس كميل شمعون (الوطنيين الأحرار) في خمسينات القرن الماضي مروراً ببشير الجميل (حزب الكتائب) الذي نصبته رئيساً على لبنان، وسمير جعجع (القوات اللبنانية) الذي ارتكبت قواته مجزرة صبرا وشاتيلا، وصولاً إلى سعد حداد وبعده أنطوان لحد وجيشه الجنوبي.

وبعد الإطاحة بنظام بشار الأسد، المحسوب على الأقلية العلوية في سوريا، سعت إسرائيل إلى استنفار الأقليات الأخرى في سوريا والمنطقة، بدعوى وجود خطر وجودي عليها من الحكم السني الجديد، خاصة أن له خلفية جهادية معروفة. ومن هنا جاء تدخلها في قضية السويداء، مستفيدة من وجود امتداد درزي داخل إسرائيل تجتمع معه في حين سمي منذ خمسينات القرن الماضي ب”حلف الدم”.  وتسعى أيضا إلى ضم علويين إلى هذا الحلف، لكن اتصالاتها مع العلويين لم تتعد حتى الآن صدور مناشدات فردية من بعض الناشطين تطلب الحماية والدعم من إسرائيل.

وخلافا للموارنة في لبنان، لم يبد المسيحيون في سوريا أي اهتمام بإقامة علاقات مع إسرائيل، وكذلك الطائفة الإسماعيلية.

والواقع أن إسرائيل التي تأسست على أساس ديني وإثني، أي دولة لـ”الشعب اليهودي”، ورسخت ذلك في قانون أقره الكنيست، تعتبر الدولة الوطنية العربية القائمة على الانتماء القومي تهديداً وجودياً لها، لذلك فهي تسعى إلى تصنيع محيط يشبهها قائم على الهويات الفرعية: دروز، وسنة، وشيعة، وعلويين، وأكراد، ومسيحيين، وإسماعيليين، بحيث تبدو إسرائيل مجرد دولة لـ”طائفة اليهود” وسط بحر من الطوائف الأخرى المماثلة.

وترسم الوثيقة الشهيرة التي نشرها الصحفي الإسرائيلي عوديد يينون عام 1982 بعنوان: “استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات”، خريطة طريق لمستقبل الشرق الأوسط من وجهة نظر الأمن القومي الإسرائيلي، وتعكس بوضوح هذا التوجه الإسرائيلي. ترى الوثيقة أن بقاء إسرائيل مرهون بتحول العالم العربي من دول قومية قوية إلى كيانات طائفية متصارعة، على غرار ما حدث في لبنان، ومن ثم العراق، باعتبار ذلك نموذجاً قابلاً للاستنساخ في بلدان أخرى تمتلك مكونات داخلية متعددة، وفي مقدمتها سوريا.

ومنذ قيامها، بنت إسرائيل أمنها القومي على هدف أساسي يتمثل في تفتيت المحيط العربي إلى كيانات طائفية وإثنية أصغر، لضمان تفوقها الاستراتيجي على هذا المحيط، باعتبار أن الدول القومية القوية، تهدد أمن إسرائيل ووجودها، ويجب تالياً السعي إلى إقامة محيط مفكك تتنازعه الهويات الدينية والعرقية، لكي يسهل التحكم به، حيث تكون إسرائيل هي الأقوى بين هذه الكيانات، وتقوم بدور الحامي والضامن والرادع، أي شرطي مرور لأقليات المنطقة المتنازعة. ومن هنا، تنظر إسرائيل إلى الأقليات كأدوات محتملة في مساعيها لإخضاع جوارها العربي.

ليس المقصود هنا إدانة مكونات معينة مما يسمى ب”الأقليات” بل محاولة لفهم التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي تجاه المنطقة، في إطار سعي إسرائيل ليس للبقاء فقط، بل للهيمنة على المنطقة واخضاعها على المدى الطويل، لأن أية فرصة تسنح لإقامة دولة عربية قومية مركزية قوية، تندمج فيها المكونات الداخلية بشكل حقيقي، سوف يشكل ذلك خطراُ وجودياً على إسرائيل، وهو ما تعمل الخطط الإسرائيلية على منع حدوثه، بكل الطرق الممكنة. ومن هنا، كان سعيها لاستثمار التطورات التي حصلت في سوريا منذ عام 2011 لخدمة هذه الاستراتيجية، فتوافقت مع الولايات المتحدة، خاصة في عهد الرئيس باراك أوباما، على ضرورة ألا يكون هناك منتصر في سوريا في هذا النزاع الداخلي، فسمح التنسيق بين الجانبين الإسرائيلي والأميركي بإمداد طرفي الصراع، نظام الأسد والمعارضة، بالسلاح ومقومات استمرار الحرب، من دون السماح بانتصار أي منهما بشكل حاسم، وهو ما كان خلال 14 عاما، حيث  أنجز نظام الأسد المهمة المطلوبة منه، وهي تدمير مقدرات الدولة السورية، وتفتيت المجتمع، وزرع بذور الشقاق بين مكوناته. وحين انتهت صلاحية ذلك النظام، وبات عاجز عن تحقيق مزيد من الأهداف في هذا السياق المحدد له، ولم يعد من الممكن إعادة تعويمه، جرى ترتيب انزياحه عن السلطة على النحو الذي جرى، مع التقدير الكامل لتضحيات وكفاح القوى التي تولت عملية اسقاط النظام على الأرض، إلا أن جهدها كان في سياق ترتيب إقليمي ودولي لتبديل السلطة في سوريا.

وبعد سقوط النظام، سعت إسرائيل منذ اليوم الأول الى توجيه هذا التحول ليخدم خططها وتصوراتها في سوريا والمنطقة، من خلال محاولة شيطنة النظام الجديد بدعوى ماضيه الجهادي، بهدف ابتزازه والتحكم في توجهاته. ورغم الضغوط التي مارستها قوى عربية وإقليمية على الإدارة الأميركية لإعطاء النظام الجديد فرصة، والاستجابة الجزئية من جانب إدارة الرئيس دونالد ترمب، من خلال قرار رفع العقوبات، إلا أن هذه الإدارة ما زالت تمنح إسرائيل المجال للعمل على تحقيق مخططاتها في سوريا، مع قدر من الضبط، خشية انفلات الوضع عن السيطرة، بما لا يخدم في النهاية التصورات الأميركية الاوسع للمنطقة، ولا يخدم حتى مصالح إسرائيل الاستراتيجية.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى