
يعيش السوريون اليوم حالة غير مسبوقة من الاستقطاب الطائفي تكاد، أو ربما فعلت، تودي بآخر الخيوط التي تجمع السوريين بعضهم ببعض، كما تكاد تقضي علي الهوية الوطنية السورية وعلى فكرة الوطن الواحد.
فالخطاب السوري المتبادل اليوم بين السوريين بفئاته المختلفة هو خطاب حرب بكل معنى الكلمة، خطاب فيه من الكراهية والتشفي والتخوين والتكفير والاستعلاء والتشاوف والتطهر ما يجعل كل محاولات رأب الصدع وخطط الإنقاذ فاشلة وعاجزة عن التقدم خطوة واحدة في طريق استعادة الخطاب الوطني أو نسج خيوط المجتمع السوري من جديد.
وليس صحيحاً ما يشاع من أن هذا الخطاب هو محصور ضمن العالم الأزرق والسوشال ميديا، فهذا العالم لا يفعل سوى أنه يعكس واقع الأرض في الافتراض؛ نحن نعلم جميعاً أن حال السوريين في الواقع لا يختلف مطلقاً عن حالهم في العالم الأزرق الذي يكثف الكراهية ويحددها ضمن أطر واضحة، في حين هي منتشرة في الواقع ومبعثرة ولا حواف لها، وهنا تكمن خطورتها الحقيقية: هذا الفلتان تصعب السيطرة عليه ومآله سيكون كارثياً على الجميع، ولن ينجوَ أحد من نتائجه، مهما كان مغترا بقوة العدد أو قوة السلطة أو قوة التحالف أو التميز.. إلخ.
علمتنا التجارب أن الزمن دوّار وأن الدم لن يخلف سوى مزيدٍ من الدم، والكراهية مزيدٍ من الكراهية، وللأسف لا تبدو سوريا قادرة على إفراز قائد وطني عظيم على طريقة نيلسون مانديلا مثلاً، أو غاندي، أو مارتن لوثر كينغ.
و”الثلاثة مناضلين من أجل الحرية وحقوق الإنسان وحقوق شعوبهم ومجموعاتهم البشرية، والثلاثة تمكنوا من التغيير لأنهم كانوا محصنين بفكر يؤمن بالنضال الشعبي والمساواة وبحق البشر جميعاً في العيش الكريم، والثلاثة أيضاً كانوا ضحايا استعلاء كولونيالي أو قومي وعرقي عنصري، والثلاثة أتوا من خلفيات دينية صارمة، أي أن هوياتهم الدينية لم تكن هي المشكلة”.
لا قيمة لسوري، مهما كان، إلا بناء على هويته الطائفية، أسقطت هذه الهوية كل القيم النبيلة التي تميز هذا الكائن عن الآخر، المعرفة والموهبة والعلم والأخلاق والتميز والصدق والنجاح والحضور والتاريخ النضالي والاسم والسمعة..
ولا يبدو أن درس السنوات الـ14 الأخيرة قد علّم في الوعي الجمعي السوري، ذلك أن الخطاب الناتج بعد هروب بشار الأسد هو خطاب يرسخ المزيد من العنف والدم والكراهية والانقسام المنحاز لهويات ما دون الوطنية بكثير، ومنحاز إلى مظلوميات محقة لكنها في ذات الوقت تحول أصحابها إلى جلادين جدد، هكذا تدور السردية السورية في دائرة مغلقة يتم بداخلها تبادل الأدوار بين المظلومية والظلم.
نعيش، نحن السوريين، اليوم بأسمائنا الطائفية، يتم تحديد ماهية السوري بالنسبة للآخرين وفق هذه الهوية، تُقبل آراؤه أو ترفض بناء على هذه الهوية التي تضفي عليه أيضاً خصائص المصداقية والوطنية والإيمان والقبول أو ما هو ضد كل ما سبق.
لا قيمة لسوري، مهما كان، إلا بناء على هويته الطائفية، أسقطت هذه الهوية كل القيم النبيلة التي تميز هذا الكائن عن الآخر، المعرفة والموهبة والعلم والأخلاق والتميز والصدق والنجاح والحضور والتاريخ النضالي والاسم والسمعة، كلها باتت صفات يتم تأطيرها ضمن هويات فرعية وضيقة لم تكن يوماً سوى وبالاً على حامليها وعلى البلاد التي توجد فيها، نعيش بهويات لم نخترها، ألصقنا بها بمصادفة الولادة وتبنيناها كما لو أنها خيارنا الشخصي.
معضلة العقيدة الدينية وملحقاتها (المذهبية والطائفية) أنها تتحول شيئاً فشيئاً إلى ما يشبه العامل الجيني؛ نحن نتقبل صفاتنا لأنها ولدت معنا ولأننا ورثناها جينيا، يحدث ذات الشيء مع العقيدة الدينية، تصبح مع الوقت عناصر وراثية لا مجال معها للبحث عن أسباب تملكها منا، ولا مجال لتغييرها إلا عبر قوة خارجية، كما حدث في الحروب التاريخية التي استطاعت نشر هذا الدين أو ذاك بقوة السلاح، أو كما يحدث في الحملات التبشيرية أو الدعوية المموّلة بقوة والتي تملك من الذكاء ما يمكنها من تحديد المستهدفين بالحملة ودراسة ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية بعناية شديدة.
المعضلة أن حملات التبشير والحروب الدينية تعيد نفس السردية، فهي تخلف أتباع جدد لدين معين أو لمذهب معين يورّث لأجيال جديدة بوصفه الحقيقة الأولى من دون أن يتاح لهذه الأجيال سؤال: متى ولماذا؟
لا يعرف غالبية السوريين متى أصبحوا سنة أو علويين أو دروزاً أو إسماعيليين أو مسيحيين أو يهودا، ومع ذلك يتمسكون بهذه الانتماءات كما لو أنها المنجى الوحيد لهم، وكما لو أنها طبع لا يمكن التخلي عنه، وهم لا يدركون أن في هذا التمسك يكمن خطر محدق، خطر التقوقع والانغلاق والضمور والمرض الاجتماعي والجهل، كلما تقوقع الكائن البشري وتمسك بمحيط واحد كلما قلت فرصه في الانفتاح على البشرية وفهم ثقافات الآخرين ومصدرها وتاريخها، كما قلت قدرته علي التعاطف الإنساني والأخلاقي، وهو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يتمايز به البشري عن باقي المخلوقات.
الطائفية واستقطاباتها تفعل فعل السرطان في جسد المجتمع، ذلك زنها تدمر منظومة القيم اللازمة للبناء، وترسخ الاستقواء والاستعداء المادي والمعنوي، وتؤسس لفاشيات متبادلة فيغرق المجتمع في العنف والعنف المضاد المؤسس للحروب الأهلية وللدم، وتلغي كل محاولات استعادة توازن المجتمع الأخلاقي والإنساني، ما يعني أنها تلغي الأسس البنيوية للمجتمع، وتقوض كل المقومات التي تجعل منه مجتمعا معافى أو شبه معافى لصالح مجتمع مريض وفاشل ولا ينتج أفراده غير الخراب والموت.
تزرع الطائفية في البشر ذاكرة مشروخة تروي الأحداث بروايات مختلفة ومتعارضة ولا تلتقي أبدا، ما يزيد في الشروخ والانقسامات، وتزيد في الخوف ونحوله إلي منظومة تفكير معممة على الجميع، تعيد الطائفية صياغة وعي الجموع وتربي هذا الوعي علي أن الانتماء أهم من الأفكار وعلى أن الكلمة ليست هي البدء وليست اللغة وسيلة تواصل مع العالم والكون وكائناته بل هي لاحقة للتصنيف، هي مجرد فخ للهروب من التصنيف الذي يجب أن يسبق كل شيء.
هكذا تُفرَّغ اللغة من عمقها لصالح التصنيف الطائفي؛ فتتحول مفردات مثل “مواطنة وحقوق وعدالة إلى مفردات طائفية بدلاً من أن تبقى مصطلحات وطنية جامعة تشمل الجميع، أما الدم فيُرثى له بحسب تصنيفه الطائفي، فلا يعُد مهماً أن الضحية بشر يستحق الحياة، إذ يُقيَّم هذا الاستحقاق طائفياً: تنال الضحية حقّ الحياة إذا كانت تنتمي للطائفة التي يتحدث عنها المتحدث، بينما يُعتبر الطرف الآخر مستحقًا للموت.
نرى بعد حين مناطق لا تضم سوى هذه الطائفة أو تلك، وبعد قليل سوف نرى مدناً لا تضم سوى هذه الطائفة أو تلك، وبعدها مناطق كاملة لا يوجد فيها أي تنوع على أي مستوى، هذا الانقسام لا يكتفي بنفسه، ذلك أنه يجر وراءه انقسامات أخرى طبقية وعشائرية وعائلية..
هكذا لا تعود هناك قيمة لأي شيء خارج التصنيف الطائفي، وشيئاً فشيئاً يدخل هذا التصنيف حتى في العلاقات البشرية اليومية، قرأت منشوراً لصديقة دمشقية تتحدث فيه عن مشاهدات لها في قلب دمشق ومنها حديث شخص لدى بائع الخضار عن كيف غيّر مدرسة أولاده لأنّ معظم مدرّسيها ينتمون إلى طائفة معينة كما قال.
هنا يصبح الاستقطاب الطائفي مؤسساً للانفصال النفسي والمعنوي والمادي، قد نرى بعد حين مناطق لا تضم سوى هذه الطائفة أو تلك، وبعد قليل سوف نرى مدناً لا تضم سوى هذه الطائفة أو تلك، وبعدها مناطق كاملة لا يوجد فيها أي تنوع على أي مستوى، هذا الانقسام لا يكتفي بنفسه، ذلك أنه يجر وراءه انقسامات أخرى طبقية وعشائرية وعائلية.
فما الذي يتبقى من الوطن والهوية؟ هل نجا أي مجتمع لا يخالطه مختلف، من المرض والفشل؟ هذا سؤال ينبغي علينا جميعا، نحن السوريين، طرحه اليوم على أنفسنا قبل أن تقع الواقعة ونبكي جميعاً وطناً أضعناه كالأغبياء.
المصدر: تلفزيون سوريا





