
في خطوة أثارت نقاشاً واسعاً في الأوساط المصرفية، تداولت مصادر إعلامية ومصرفية تصريحات جديدة صادرة عن حاكم مصرف سوريا المركزي الدكتور عبد القادر حصرية حول الانكشاف المالي للجهاز المصرفي السوري على النظام المصرفي اللبناني، والذي عانت وتعاني منه مجموعة من المصارف العاملة في سوريا، ولاسيما الخاصة، حيث طالب الدكتور حصرية تلك المصارف بمعالجة هذا الانكشاف عبر التحصيل، أو التقاص، أو تضمينها كخسائر متوقعة في إطار خطط إعادة هيكلة موثوقة، وخلال مدة ستة أشهر فقط.
هذه التصريحات، أتت بعد مرور شهر كامل على صدور تعميم، طُلِب فيه من المصارف العاملة في سوريا، بالاعتراف الكامل بنسبة 100% بواقع انكشافها المالي على النظام المصرفي اللبناني، بمعنى تحديد قيمة الودائع والحسابات الجارية المجمدة العائدة لها في البنوك اللبنانية منذ العام 2019. حيث أدى الانهيار المالي في لبنان في العام المذكور إلى تحويل (الأصول الخارجية السائلة)، التي كانت تستخدمها المصارف السورية عند نظيرتها اللبنانية كنافذة للتعاملات الخارجية في ظل العقوبات الغربية التي قيدت نشاطها الدولي، إلى ودائع وحسابات مجمدة (انكشافات مالية) يصعب تحصيلها، بسبب خضوعها لإجراءات وآليات عمل مصرف لبنان (المركزي) الهادفة للتحكم بإدارة السيولة المصرفية.
انهيار النظام المصرفي اللبناني، والانكشاف المالي الذي نتج عنه في بيئة العمل المصرفي في سوريا، جعلا آثار عقوبات قيصر التي فُرضت في العام التالي 2020 مضاعفاً وأكثر تدميراً.
هذه الخطوة تأتي في سياق إعادة هيكلة مالية سورية داخلية، تهدف إلى تعزيز الشفافية وتقليص المخاطر الخارجية، لكنها تطرح تساؤلات حول إمكانية التحقق والجدوى العملية والآثار الناتجة، إذ إن المصارف اللبنانية نفسها ما تزال عاجزة عن إعادة أموال المودعين المحليين، فكيف ستفي بالتزاماتها تجاه المصارف السورية، والبالغة ملياراً وستمئة مليون دولاراً أميركياً على الأقل وفق ما ذكره الدكتور حصرية، وخلال ستة أشهر.
إضافة لذلك، تثور شكوك في مدى القدرة العملية على وضع خطط إعادة هيكلية واقعية وموثوقة للمصارف المعنية، ضمن هذه المدة القصيرة نسبياً، بما يؤدي إلى معالجة الخسائر المتوقعة أو الفعلية عن الأصول غير المُحصَّلة، من دون آثار تعاكس تحقيق الهدف المُعلن من قبل المركزي، والمتمثل برفع مستوى الانضباط المصرفي.
فالقيمة الضخمة لهذا الانكشاف، تُشكِّل بين ربع وثلث الأصول المتضمنة كودائع في الجهاز المصرفي السوري ككل، والتي تتراوح حول خمس مليارات دولاراً أميركياً. وفي ظل استحالة القدرة على الاسترداد، أو حتى القدرة على نقل أصول مجمدة إلى حسابات ائتمانية منخفضة المخاطر عبر التَّقاص مع أطراف ثالثة، يصبح الخيار الأقرب هو الاعتراف محاسبياً بواقعها، سواء كخسائر متوقعة “شبه مؤكدة”، وتشكيل مخصصات التغطية اللازمة وإظهارها في القوائم المالية، أو كخسائر حقيقية واقعة فعلاً خلال الدورة المالية التالية لانتهاء المهلة النصف سنوية هذه، وهذا يعني بصورة أو بأخرى، إما اضطرار هذه المصارف لإشهار إفلاسها، أو استمرارها في البحث عن شركاء استراتيجيين جدد، قادرين على تبني مضاعفة رؤوس الأموال المدفوعة فيها، في ظل مدة سيمضي نصفها على الأقل تحت عقوبات قيصر، أو ذوبان واندماج المصارف المعنية في مصارف أخرى عبر (الاستحواذ)، في سابقةٍ لا يُعرف عنها وجود آليات عمل تنفيذية تضمن إنجازها بصورة آمنة، وبما يحافظ على حقوق المؤسسين والمساهمين والمودعين.
وإذا ما تذكرنا أن انهيار النظام المصرفي اللبناني، والانكشاف المالي الذي نتج عنه في بيئة العمل المصرفي في سوريا، جعلا آثار عقوبات قيصر التي فُرضت في العام التالي 2020 مضاعفاً وأكثر تدميراً، حيث انحسرت بصورة تامة المعاملاتُ الدولارية المصرفية، التي كانت تجري لصالح الاقتصاد السوري عبر لبنان والعالم، الأمر الذي أدى لانهيار متسلسل في قيمة الليرة السورية، والتي بقيت ذات عرض وطرح متزايد في تمويل عجز الموازنة الحكومية، مقابل الدولار المطلوب والمتناقص في عرضه. وبالتالي، وأمام هذه الحقيقة، فإن استباق رفع عقوبات قيصر بهذه المجريات والضغوط يبدو مفاجئاً واستباقياً، وقد يشير إلى وجود ترتيبات معينة يُحضِّر لها المصرف المركزي للتدخل بصورة مباشرة وبنهج سلطوي في إدارة الجهاز المصرفي السوري، بالتزامن مع ما يعلنه حاكم مصرف سوريا المركزي مراراً وتكراراً عن إصدار وطرح الأوراق النقدية لليرة السورية الجديدة “بدون صفرين” بداية العام القادم، وتصريحاته المتعددة أيضاً عن نوايا تغيير نظام الصرف الأجنبي من الثابت، الذي لم يكن ثابتاً منذ العام 2011، إلى التعويم المُدار، الذي يحتاج إلى قدرات تحتية: إحصائية وبرمجية، وفوقية: إدارية وتحليلية عالية.
ومن هنا، وأمام احتمال تعقد المشهد المالي والاقتصادي، يتوجب على مصرف سوريا المركزي إظهار التشاركية، وطرح الحلول المرحلية، والعمل على نقل مطالبه الداخلية والثنائية تجاه لبنان، ذاتياً وعبر الحكومة السورية الانتقالية، إلى الطاولة الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة المالية
اللبنانية، وهنا يمكن الحديث عن تبني سياسة متعددة المسارات تستند إلى معالجة تدريجية ضمن إطار إقليمي، وربما دولي، يكون متوازناً، ويحافظ على استقرار الجهاز المصرفي السوري.
فأولاً، لابد من مضاعفة المدة الممنوحة لتسوية هذا الانكشاف، على ألا تقل عن 18 شهراً، في سبيل متابعة التحصيل القانوني والمالي عبر قنوات إقليمية. كما يمكن العمل على ترتيبات مشتركة سورية لبنانية، بتجاوز الحدود المالية والمصرفية، إلى تشجيع المقاصة التجارية مع مؤسسات لبنانية لديها التزامات مقابلة للمصارف السورية، فمثلاً، يمكن طرح مبدأ (التبادل مقابل الاستثمار)، بحيث تتحول الديون المجمدة إلى استثمارات لبنانية–سورية مشتركة في قطاعات معينة حيوية، كالطاقة والنقل وغيرها من الخدمات، على أن تُخصم قيمتها من الديون لاحقاً.
كما يمكن ثانياً، عبر قنوات عربية ودولية، إطلاق مبادرة وساطة مالية برعاية جامعة الدول العربية أو صندوق النقد العربي، لتسوية الديون المصرفية بين دمشق وبيروت، وإنشاء آلية مقاصة إقليمية بالعملات المحلية تتيح استعادة الحركة النقدية تدريجياً.
من واجب المركزي مراعاة واقع المصارف السورية التي تعاني أصلاً من ضعف رساميلها، ومن ضعف الثقة لدى المتعاملين، وضيق إطار الشمول المالي للمصارف في البلاد.
ثالثاً، لابد من التأكيد على أن القطاع المصرفي السوري يحتاج إلى دعم فني ومحاسبي من مؤسسات دولية، مثل بنك التسويات الدولية، أو اتحاد المصارف العربية، لوضع معايير معالجة الأصول المجمدة وتخفيف أثرها المحاسبي. كما يمكن ربط معالجة المسألة بالاحتياج إلى دعم خارجي بشكل ودائع، يمكن تقديمها من دول عربية كالسعودية وقطر، وتُستخدم كخطوط تمويل داخلية من المصرف المركزي لتعويض نقص السيولة المحتمل، وتأجيل تطبيق معايير الخسائر الائتمانية لعامين على الأقل.
وببساطة فإن الخلاصة مما سبق، هو ألا يَقتصر دور المصرف المركزي على توجيه الأوامر وتقديم المتطلبات، بل يتوجب عليه المشاركة في تحمل المسؤولية فيها، فهو مُطالب عُرفاً، وربما قانونياً أيضاً، بإنجاح هذه العملية المالية الضخمة والمفصلية، كاختبار لقدراته على تحقيق التوازن بين الانضباط والمخاطرة، وبين الواقعية المالية والاستقرار النقدي. فمن واجب المركزي مراعاة واقع المصارف السورية التي تعاني أصلاً من ضعف رساميلها، ومن ضعف الثقة لدى المتعاملين، وضيق إطار الشمول المالي للمصارف في البلاد، وأن يتفادى الضغط المفاجئ لتحصيل أموال غير قابلة للتحصيل عملياً قد ينعكس سلباً على الاقتصاد الوطني ككل. فالإصلاح الحقيقي لا يتحقق بشطب الأرقام على الورق، بل بإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمصارف بوصفها علاقة شراكة في بناء الثقة لا تبعية في إدارة الخسائر، والعمل على تحويل هذه القضية إلى فرصة لبناء سياسة مصرفية سيادية ومنضبطة، وتحويلها من عبءٍ مالي إلى بدايةٍ لتوازنٍ نقدي واقتصادي، تشاركي، أكثر استقراراً، داخلياً، وعلى المستوى الثنائي مع لبنان، وإقليمياً أيضاً.
المصدر: تلفزيون سوريا






