في قضية هنيبعل القذافي

يقظان التقي

حملت التطوّرات أخيراً في قضية اعتقال هنيبعل القذافي في لبنان اختراقاً إيجابياً في ملفّ ٳطلاق سراحه بعد مضي عشر سنوات من نظام احتجاز وصف بأنه “غير ٳنساني” و”غير قانوني”، بالنظر ٳلى الملفّ المرفق بجنحة ٳخفائه معلوماتٍ بشأن قضية اختفاء الٳمام موسى الصدر ورفيقيه في ليبيا العام 1978.

فتحت المحاكمة بعد انقطاع طويل “تنهيدةً” منقوصةً في جدار العدالة اللبنانية، وحرّكت القضاء الساكن، إذ تحوّلت مادّةً سجاليةً سياسيةً على خلفية حالة توقيف اعتباطية/ بوليسية في عملية اختطاف من دمشق إلى البقاع ثمّ بيروت، ولجهة قرار قاضي التحقيق العدلي زاهر حمادة ربط ٳطلاقه بكفالة مالية باهظة.

كانت “التسعيرة” اللبنانية المبالغ فيها (11 مليون دولار)، لا تقلّ إشكالية، وقد تبقيه محتجزاً، إلا إذا حدثت إغاثة مالية عائلية أو عربية تضع حدّاً لنظام احتجاز تعسّفي ليس مهنياً، نيابة عن حالات معتقلين لبنانيين وسوريين عديدين في سجون لبنانية، وفي أوضاع مشابهة نسبياً، ما يتطلّب تغييراً جذرياً في نظام الكفالة (أصلاً بالليرة اللبنانية) وفي طبيعتها ووظائفها، التي انتقلت من ملف إنساني حسّاس إلى ملفّ ابتزاز مالي وسياسي، من دون أن تؤدّي إلى تقديم كشوف، أو معلومات تفيد التحقيق، أو حلول لمسألة المعتقلين. يدفع القذافي الابن الذي كان فعلاً لا يتجاوز الثلاث سنوات من عمره عند اختفاء الصدر ورفيقيه، أثماناً باهظةً في مسألة لم يكن جزءاً منها، وما ينفي أيّ مسؤولية شخصيه له فيها.

أغلب الظنّ أن “التسعيرة” التي حدّدها القاضي للإفراج عن القذافي رسالة سياسية، وردت بلاغياً في مجاميع خطب سياسية أبرزت في توصيفاتها المكانة الرفيعة التي يمثّلها الصدر عند اللبنانيين، ولا تزال قائمة. فالمسألة لا تتعلّق بدرجة الٳعجاب بالقذافي الابن ٳلى درجة منحه المقدرة على الخروج من دون عقاب، ولا حجب مسؤولية والده معمّر القذّافي عن جريمة مروّعة في تقاطعاتها الإقليمية، قد يكون ضالعاً فيها. مع ذلك، ٳنها أزمة عدم تطوّر القضاء بالشكل الكافي، ما يسمح بأن تبقى جريمة بهذا الحجم من دون عقاب. ومن هنا يجب أن تكون البداية، لا أن تنهي بكفالة مالية مبالغ فيها من دون سقف، لاقت استنكاراً واستهجاناً من قانونيين وناشطين داخل الجسم القضائي نفسه، باعتبارها إجراءً تعسّفياً، وغير متناسب مع الجنحة المتّهم بها القذافي، ما يفرغها من غايتها القانونية، ويبقي على حالة الاحتجاز القسري بصورة غير مباشرة بعد اعتقال منذ 2015 (جاء مخالفاً لأصول المحاكمات الجنائية وانتهك حقوق الإنسان).

التسعيرة” (11 مليون دولار) قد تبقي هنيبعل القذّافي محتجزاً، إلا إذا حدثت إغاثة مالية عائلية أو عربية تضع حدّاً لنظام احتجاز تعسّفي ليس مهنياً

لم تُعرف المعايير التي استند ٳليها قاضي التحقيق العدلي لمنع هنيبعل القذّافي من السفر، وهو ظلم آخر، والمواد بهذا الصدد قابلة للطعن من فريق محامي القذافي، بهدف ٳلغاء الكفالة أو تخفيضها. فهي لا تخدم مسار التحقيق، بل تعمّق هشاشة نتائجه وتوحي بالتصرّف الهاوي، وبمزيد من تكثيف العتمة وعدم الجديّة بالتعامل مع القضية. والأشدّ ٳيلاماً، أن الجميع يعلم ما يجري في القضاء، ولا أحد يفعل شيئاً يؤدّي ٳلى رؤية استشرافية وتوصيات عاجلة تسلّط الضوء على حالات “انتهاك خطير للحقوق الأساسية لعدد كبير من الأشخاص”، ومن ثم لم يعد بالإمكان استخراج الحقائق، ولا اسنباط الأدلة، في تحدٍّ لهاجس البحث عن الحقيقة.

قد يطلق القذافي قريباً بضغطٍ عربي حاسم، وبضغط داخلي لبناني نتيجة ممارسات قضائية أفقدت العهد الجديد كثيراً من رصيده الشعبي والقانوني، وقد تدفع ٳلى عودة الدبلوماسية القضائية بين لبنان وليبيا لجلاء صفحات من الملفّ المُفجِع والحسّاس، الذي أصاب العلاقات بين البلدين منذ 47 عاماً، وكان الإمام رمزاً وطنياً كبيراً ورجلاً جامعاً بامتياز، شكّل اختفاؤه صدمةً للبنانيين عامة.

ٳن استمرار التوقيف خرق واضح لمبادئ العدالة والحقوق الأساسية التي يكفلها الدستور اللبناني والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والسلطة القضائية مدعوة ٳلى ٳعادة النظر في الكفالة بروح العدل والٳنصاف واتخاذ قرار كامل بٳطلاقه وبحصوله على حريته، بما يتناسب مع المعايير القانونية والحقوق المرعيّة، وألا يكون القضاء اللبناني يدين نفسه مرّات متتالية.

ثمّة خيط فاصل بين حصافة القاضي وحصانته، وعلى القضاء أن يشدّ من وتره كي لا ينقطع احتراماً وتطبيقاً للعدالة، والعودة ٳلى جوهر المهنة، كي لا يبقى هائماً أو مفتوناً في الخواء مع الحاجة إلى تنفّس فضاءات أوسع من المتوافرة حالياً. فالقضاء يعمل باسم القانون، يحاسب ويسائل ويحكم ويعاقب ويدافع عن المغبون والمظلوم، ويمنع المتنفّذ القوي من سحق الكائن الأضعف، أو سلبه من حقوقه كما يحمي كرامته.

يدفع القذافي الابن أثماناً باهظةً في مسألة لم يكن جزءاً منها، ما ينفي أيّ مسؤولية شخصية له فيها

ليس كثيراً أن يطمح القضاء ٳلى محاكاة الموضوعية عندما يلتزم إعلان ضوابطه وحدوده وصلاحياته، ٳذا أصابته الشوائب وخضع للسلطة السياسية. فالقضاء يعاصر اليوم إنسانيةً مختلفةً، متمرّدة، لا تريد (ولا تسمح) لأحد أن يمنعها من الكلام حتى في حضرة الرهبة، وحتى في مسرح القضاء الجالس.

كان الأهم التركيز في رغبة أهل الإمام ورفيقيه، ورغبة أقربائهم وأحبّائهم، في معرفة مصيرهم، ومن ثم لهم حقّ معرفة تطوّر التحقيقات القانونية والقضائية، والتقصّي حتى الوصول الناجز ٳلى الحقيقة أو تحديدها. وتبين أن سنوات اعتقال الشاب الليبي لم تصنع تلك الحقيقة، ولا البرهان والدليل لتحديدها. فشكّلت التعمية في خدمة مصالح الظلم والاستغلال والزبائنية، والوقوع في الشطط والانحراف في ظلال” السلطة “، كي لا يكتمل التوازن ولا تتحقّق شبكة الأمان، علماً أن قاضي التحقيق العدلي المعني يتمتّع وفق عارفيه بسمعة طيبة وبطبع مثالي في شروط أداء القاضي المهني.

من الصعب في لبنان تطبيق القانون وفقاً للعقلانية المجرّدة من الذاتية الفئوية، وتجنّب صفة الانفعال صفةً سلبيةً في الأداء العام، إذ غالباً ما يسبّب هذا الانحراف نحو التمييز خسارة ميزة التجرّد، ومن ثم ٳفساد مبدأ العدالة. لذلك يشترط في عملية استقلالية القضاء وٳصلاحه تَجرّدُه وتنقيته من الميول الحزبية، أو الأفكار المسبقة متأثّراً بالأيديولوجيا السياسية. ومن أبرز مزايا الاستقلالية (القضاء الإنكليزي) التزامه قاعدةً ذهبيةً تقوم على منع أيّ مؤثّر خارجي مهما كان من إعاقة “العدالة العامة”، وألا يُسمح لأيّ مسؤول مهما علا شأنه أن يعوق مسارها. ذلك يعني أن معظم المواطنين سيلجؤون إلى فعل أيّ شيء ممكن للبقاء بعيدين من المحاكم. وهذا سترافقه جهود شاملة في التواصل من أجل المساعدة في استعادة الثقة بالقضاء اللبناني.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى