
لا يمكن وصف الوثيقة التي طرحها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بأنها “خطة سلام”، إذ تفتقد مقومات ما يمكن تسميتها “الخطّة”، وهي، في أحسن الأحوال، إعلان مبادئ عامة. وهي ثانياً لم تتضمّن عناصر إرساء “سلام”. إذ لم تشر من قريب أو بعيد إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، الذي يعتبر الاحتلال الأطول في التاريخ الحديث، ولا لحقوق اللاجئين التي أقرّتها قرارات الأمم المتحدة، بل اعتبرت تنفيذها في حينه شرطاً للاعتراف بإسرائيل. ولم تتضمّن “خطّة ترامب” إقراراً صريحاً غير مشروط بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، الذي استبدلته بمسارٍ غير مضمون، مشروط ومحفوف بالإملاءات، يذكّرنا بمسار ما بعد أوسلو الذي طال 32 عاماً ولم يحقّق سوى تعميق الاحتلال والاستيطان ونظام الأبارتهايد العنصري.
ولم تشر الوثيقة إلى ما يجري في الضفة الغربية من استيطان استعماري، وتقطيع للأوصال تجاوز كل الحدود، ولا إلى ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني ومقدّساته من اعتداءات، بل تفاخر الرئيس الأميركي بأنه اعترف بالضم غير الشرعي للقدس.
وإذا شئنا الدقّة، كانت خطّة ترامب وثيقة إعلان وقف حرب الإبادة على قطاع غزّة، رغم أنف نتنياهو ووزرائه الفاشيين، وتضمّنت اعترافاً ضمنياً بفشل مؤامرة التهجير والتطهير العرقي لقطاع غزّة التي أيدها ترامب سابقاً، وكانت ستؤدّي لو نجحت إلى تطهير عرقي آخر في الضفة الغربية.
لم تشر الوثيقة إلى ما يجري في الضفة الغربية من استيطان استعماري، وتقطيع للأوصال تجاوز كل الحدود
اضطرّ ترامب إلى إعلان وقف الحرب لأربعة أسباب: أولاً، وقبل أي سبب، الصمود البطولي الباسل للشعب الفلسطيني في قطاع غزّة رغم عظمة التضحيات التي زادت عن 250 ألفاً بين شهيد وجريح، وتدمير أو تخريب أكثر من 90% من بيوت القطاع وبناياته ومؤسساته. صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته، وفشل مؤامرة التهجير استنهض العامل الثاني وهو ثورة شعوب العالم التضامنية التي تجاوزت كل الحدود، بل فاقت مثيلتها ضد نظام الأبارتهايد العنصري في جنوب أفريقيا، وأجبرت حكومات غربية متردّدة على الاعتراف بدولة فلسطين، وهي ثورة عزلت إسرائيل عالمياً، فجاء ترامب بخطّته التي قال إن هدفها فك عزلة إسرائيل، وأرفق ذلك بقوله لنتنياهو “أنت لا تستطيع محاربة العالم”. وهي ثورة يجب أن تتواصل وتتصاعد، لا أن تتوقف لأنها من أهم عناصر قوة النضال الفلسطيني في المرحلة المقبلة.
العامل الثالث، ضغط الأحداث على البلدان العربية والإسلامية وعلى شعوبها، وشعور حكوماتها بخطر أن تؤدّي حرب الإبادة إلى انفجارات لا تُحمد عقباها، بالإضافة إلى إدراكها أن انفلات نتنياهو بعد اعتداءاته المتتالية على لبنان وسورية، وهجومه الوقح على قطر، سيصيب الجميع خصوصاً أن نتنياهو صار يتصرّف كأنه الحاكم الإمبريالي الجديد للشرق الأوسط والخليج، يقصف ويضرب، ويعلن مقاصده تغيير خرائط الشرق الأوسط.
العامل الرابع، بلا شك التحول غير المسبوق في الرأي العام للشعب الأميركي، خصوصاً بين جيل الشباب، والذي تجاوزت نسبة التأييد فيه للفلسطينيين أول مرة مثيلتها لإسرائيل.
العامل الحاسم بمنع تجديد الحرب يبقى “عامل التضامن العالمي” الذي يجب تصعيده، وعدم السماح بأي حال بتراجعه
لم يغير ترامب انحيازه المطلق والكامل إلى إسرائيل، ومشاركة إدارته، مثل إدارة بايدن قبله، في جرائم الحرب التي ارتكبتها، وقد تفاخر بذلك في الكنيست، عندما قال إنه أعطى لإسرائيل كل ما طلبته من أسلحة، بما فيها أسلحة لم تستخدم من قبل، “أحسنت إسرائيل استخدامها ” كما قال، في ما أصبح أسوأ حرب إبادة في التاريخ الحديث. ولن يتوقف ترامب، حتى بعد حفل إرضاء نرجسيته المفرطة في شرم الشيخ، عن محاولة تخليص إسرائيل من عزلتها أو عن الانحياز إليها. وقد سمعناه بعد توقيع خطّته يطلق التهديدات والوعيد ضد الفلسطينيين، وذلك يؤكّد أن الذي انتهى مرحلة من الصراع، وليس الصراع المفتوح نفسه، والذي لا يمكن أن ينطوي إلا بنيل الشعب الفلسطيني حرّيته وحقوقه المستباحة من إسرائيل، وفي مقدّمها حقه في تقرير المصير.
ولن تغير أوهام مسؤولين إسرائيلين بأنهم انتصروا ذلك الواقع، ولن يستجيب أحد لأحلامهم بأن يعلن الفلسطينيون استسلامهم. والحقيقة الصادمة لحكّام إسرائيل وحلفائهم أن الولايات المتحدة وكثيرين من أنصار إسرائيل في الغرب منحوها عامين كاملين، لتحقيق هدف التطهير العرقي، وفشلت، رغم أنها ارتكبت ثلاث جرائم حرب بالتوازي، بما فيها أم الجرائم، حرب الإبادة الوحشية. واضطرّ الرئيس ترامب أن يتراجع عن تصريحاته السابقة بترحيل أهل غزّة وتحويلها إلى ريفييرا سياحية للمستثمرين الرأسماليين.
لم ينته الصراع، وستواصل إسرائيل محاولاتها تغيير الدفّة، بدعم من ترامب، ولذلك المطلوب أقصى درجات الحذر واليقظة في مواجهة خمسة مخاطر. أولها خطر تجديد نتنياهو حرب الإبادة، بعد أن استردّ أسراه، أو التحول نحو افتعال الأسباب لشن عمليات عسكرية وقصف على قطاع غزّة، بما يشبه ما يجري في لبنان، وجيشه لم يتوقف تماماً عن الاعتداءات رغم دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ. مع أن إعادة الحرب الكاملة أمر بالغ التعقيد والصعوبة في ظل خسائر إسرائيل البشرية والاقتصادية، وحاجة جيشها غير المعتاد على حروب طويلة إلى إعادة تنظيم صفوفه. ولكن العامل الحاسم بمنع تجديد الحرب يبقى “عامل التضامن العالمي” الذي يجب تصعيده، وعدم السماح بأي حال بتراجعه.
لم ينته الصراع، وستواصل إسرائيل محاولاتها تغيير الدفّة، بدعم من ترامب، ولذلك المطلوب أقصى درجات الحذر واليقظة
ثاني المخاطر تلاعب الحكومة الإسرائيلية بالمساعدات الإنسانية واستخدامها وسيلة للابتزاز السياسي، وقد بدأت بذلك، إذ لم تنفذ بنود الاتفاق في إيصال المساعدات الإنسانية إلا جزئياً. ثالثاً، خطر تجدّد الحصار المحكم على قطاع غزّة، وعدم السماح بتفعيل معبر رفح في الاتجاهين، وهو أمر ستواصل إسرائيل المماطلة والتلاعب به. ورابعاً، خطورة استمرار بقاء جيش الاحتلال داخل قطاع غزّة وعدم تنفيذ الانسحابات المتفق عليها، وحتى كتابة هذا المقال كان الجيش الإسرائيلي يحتل حوالي 50% من مساحة القطاع الصغيرة. وخامساً، خطورة استمرار (واتساع) التصعيد الاستعماري الاستيطاني والقمعي في الضفة الغربية ومدينة القدس. وهو تصعيد يمسّ جميع مناحي الحياة، ويهدّد بنسف أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة.
يترافق ذلك كله مع التحدّي الكبير، بفصل قطاع غزّة عن الضفة الغربية عبر إخضاعه لإشراف وإدارة استعمارية أجنبية، بغرض دقّ الإسفين النهائي في فكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة. وتتشارك في محاولة فرض المنظومة الأجنبية إسرائيل، وبعض الحكومات الغربية وطرف إقليمي. وذلك تحدٍّ خطير لا يمكن مواجهته إلا بوحدة الموقف الفلسطيني وتوافق فلسطيني سريع.
ولا بد من القول، في الختام، إن ذلك التحدّي كان من الممكن الوقاية منه ومن مخاطره لو طُبق اتفاق بكين، وما زال المجال متاحاً لذلك، إن توفرت النيات الصادقة والإرادة الوطنية والقدرة على تجاوز حساسيات الماضي وانقساماته التي لا علاقة لها بمصالح الشعب الفلسطيني.
المصدر: العربي الجديد