من المؤسف أن يترافق المشهد العالمي المثقل بالعجز عن السيطرة على فيروس «كورونا» وبالصور المؤلمة لضحاياه، مع استمرار شحن الصراعات السياسية والمنافسات الاقتصادية وتغذية المصالح الأنانية والعصبيات العرقية، في تسابق بغيض لدى بعض قادة الدول لاستثمار الحدث، والإفادة من تداعياته، لتقوية عناصر سيطرتها ونفوذها، بدل التوجه للعمل على حلول إنسانية مشتركة لتجاوز المحنة.
فماذا يمكن أن يُفهم من سلوك سلطة بكين التي آثرت حفاظاً على مصالحها الاقتصادية وسمعتها السياسية التكتم على نشوء الفيروس، وحجبت حقائق تطوره وأعداد ضحاياه، مستهينة بالتحذيرات التي أثارها أطباؤها حول خطورته وسرعة انتقاله عبر المسافرين إلى أرجاء المعمورة؟ أو كيف نفسر تهربها من فعلتها ومسؤوليتها، بتمرير تصريحات عن أن الوباء صنيعة إمبريالية، وتحديداً أميركية، للنيل من الموقع المتقدم الذي باتت تحتله الصين اقتصادياً؟ ثم مسارعتها بعد أن تمكنت من محاصرة الوباء، للعمل على تلميع صورتها وعرض المساعدة لأكثر الدول الأوروبية تضرراً، عساها تعيد فتح أبواب تصدير منتجاتها، من دون أن تتردد في تشغيل دعايتها الإعلامية، للطعن في حيوية الأنظمة الديمقراطية وفي فعاليتها في حماية شعوبها، مروّجة لنموذجها المركزي القمعي، وقدرته في السيطرة على حياة الأفراد للحد من انتشار المرض؟ ثم ألا يصح النظر من القناة ذاتها إلى موقف روسيا، وكيف عملت بكل طاقتها للتشكيك في قدرة أوروبا على البقاء كياناً موحداً بعد جائحة «كورونا»، ساخرة من الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة، لأنه لم يستطع توفير أجهزة التنفس الصناعي ومعدات الوقاية والحجر الصحي لشركائه وأعضائه، كالتي وفرتها روسيا والصين لإيطاليا وإسبانيا وصربيا، وكأنها تتقصد الدعاية السافرة لكفاءة الأنظمة المغلقة، الشعبوية والاستبدادية؟!
مع الازدياد المستمر في أعداد المصابين والضحايا في الولايات المتحدة، لم يتأخر الرئيس الأميركي عن استثمار جائحة «كورونا» لتحميل الصين – بداية – مسؤولية خلق الفيروس ونشره، بغرض تقويض سمعتها وتأليب العالم ضدها، في سياق معركته للحد من نفوذها وطموحها الاقتصادي والسياسي، ثم الإفادة من مناخ الخوف المرافق لانتشار الوباء، لشحن الروح العنصرية، وتعزيز تعبئته الشعبوية ضد المهاجرين في بلاده، متوخياً مع اقتراب المعركة الانتخابية، ربح مزيد من النقاط ضد منافسه الديمقراطي. ويزيد الطين بلة تريثه في تنفيذ خطط شاملة للعزل وإغلاق المدن، كي تبقى عجلة الإنتاج دائرة، مدعياً أن الخسائر الناجمة عن تعطيل الاقتصاد أكبر من خسائر «كورونا». ولا تغير هذه الحقيقة؛ بل تؤكدها، محاولاته بث تطمينات زائفة، بادعاء قرب إنتاج لقاح ضد الفيروس، أو الرهان على دواء «الملاريا» في معالجة المصابين، بينما لن يغفر التاريخ له ما تردد عن سعيه لشراء واحتكار لقاح، أشيع بأن أحد المختبرات الألمانية توصل إليه.
وفي المقابل، تثار الشكوك حول تباطؤ حكومات غربية في إنقاذ مناطق انتشر فيها الفيروس وتعتبرها معاقل للمعارضة، بهدف تحسين فرص سيطرتها، أو عن تواطؤ خفي لحكومات أخرى للتخلص من كبار السن الذين يطالهم «كورونا»، وقد باتوا يشكلون عبئاً ثقيلاً على المجتمع وحوافز تطوره الاقتصادي، بدليل مجاهرة رئيس الوزراء البريطاني بتطبيق ما سماه «مناعة القطيع»، كي تكتسب الأجيال المناعة من عمومية انتشار الوباء، حتى لو كان ثمن هذا الاصطفاء الطبيعي، البقاء للأقوى، وخسائر كبيرة في الأرواح!
لحكام طهران حكاية مختلفة، فقد حاولوا بداية استثمار الوباء حين تأخر انتشاره في مدنهم، للظهور بمظهر السلطة القوية والمحصنة؛ لكنهم كالعادة لجأوا إلى نظرية المؤامرة، واتهام أميركا بأنها مَن نشر الفيروس للنيل منهم بعد أن أفشلوا حصارها، كذا! ثم لم يترددوا في استثمار المرض بعد استفحاله، لاستجرار معونات يرجون منها تخفيف أزمتهم الاقتصادية، بينما لم يهتم الرئيس التركي إردوغان بمصير ضحايا شعبه من «كورونا»، مجاهراً بأن للاقتصاد أولوية لن يتنازل عنها، رافضاً إغلاق المدن والعزل، ومتطلعاً إلى كسب اقتصادي قد يمكنه من استعادة شعبية مفقودة.
وهنا، لنتمعن في سلوك حكومتي لبنان والعراق، وكيف أفادتا من انتشار الفيروس لحظر التجمعات، وتسويغ قمعهما لانتفاضات شعبية نهضت ضد الفساد والتسلط والارتهان، بينما تستمر السياسة السورية في نهجها الديماغوجي، إنْ لتغطية ما مارسته وتمارسه ضد الشعب السوري من قتل وفتك، وإنْ لتمرير حربها على إدلب بأقل ردود فعل، وإنْ بادعاء القدرة والكفاءة، وحتى التفرد، في التصدي لهذا الوباء. ويحتار المرء، هل يبكي أم يضحك، من تصريح وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، بأن العالم كله بات يقتدي بالتجربة السورية الناجحة في التصدي لفيروس «كورونا»؟! والأنكى حضور رغبات سلطوية في انتشار الوباء فيما تبقى من أماكن سيطرة المعارضة عساه ينهي وجودها، أو انتقاله لمخيمات اللاجئين، مع ما قد يخلفه ذلك من نتائج مأساوية.
ثمة فقهاء لجماعات الإسلام السياسي وبعض المتأسلمين الديماغوجيين، بادروا لتوظيف «كورونا» لبعث وإحياء بعض الخرافات الدينية التي تتعارض مع جوهر الدين ومع المنطق، وما أرسته العلوم والمعارف في فهم الوباء وطرق مواجهته، مرةً بالادعاء أن هذه الجائحة لن تطال المسلمين، وهي عقاب من الله ضد الكفرة والمشركين، ومرة ثانية بالتحريض على رفض قرار السلطات وقف الصلاة في المساجد؛ لأن أماكن العبادة أرض مقدسة لا حياة فيها للفيروسات والجراثيم! ومرة ثالثة بالإصرار على تقاليد زيارة مراقد الأولياء، على الرغم مما حصل في مدينة قم الإيرانية. زاد بالطنبور نغماً عناصر مأجورة تدعي العلم والمعرفة، وظَّفت نفوذها في وسائل التواصل الاجتماعي لإشاعة معلومات خاطئة، وطرق طفولية مثيرة للسخرية، على أنها قادرة على هزيمة الوباء.
أخيراً، يبقى السؤال: هل تنجح جائحة «كورونا» في إخراج أسوأ العادات والأخلاق الاجتماعية، أم ستكون محطة مفصلية، تعيد للإنسان إنسانيته، وللقيم الأخلاقية مركزيتها؟ وتالياً: هل تستمر النخب الأنانية في جر المجتمعات نحو العنصرية والغرائزية ومنطق القوة والعنف، وما يخلفه ذلك من ضحايا وتمييز وتدمير للبيئة وأزمات لجوء وانهيارات اقتصادية، أم أن التطورات الموضوعية التي وصلت إليها البشرية، وقوة تشابك مصالحها وإلحاح حاجتها للتفاعل والتلاحم في مواجهة التحديات والمعضلات المشتركة، ستدفعها لمراجعة حساباتها، ولإطلاق آفاق جديدة تعلي من شأن الإنسان، وأولوية صيانة حياته وحريته وحقوقه؟
المصدر: الشرق الأوسط