لبنان: الانتماء والحرية  

د- عبد الناصر سكرية

مثلما للطبيعة قوانينها الملزمة للإنسان، معرفتها تستدعي انضباطه بها ليتمكن من الانتصار عليها وتسخيرها لخدمته وخدمة رسالته في الحياة..

فإن للإنسان ، ذلك الكائن الإجتماعي المتميز ؛ قوانينه أيضا والمتمثلة بإنتمائه إلى مجتمع محدد في ظروفه ونشأته وخصائصه ومقوماته الأخلاقية الإنسانية والإجتماعية..أول هذه القوانين هي الإنتماء والهوية.فألإنسان الفرد لا وجود له إلا في إطار جماعة تكون له مجتمعه الخاص بما له من صفات ومواصفات ثقافية وأخلاقية تشكل هويته التي إكتسبها عبر تطور مجتمعه عبر تطور تاريخي طويل..فيصبح إلتزامه بثوابت التكوين التاريخي للمجتمع الذي ينتمي إليه , أحد أهم مقومات قدرته على تطوير ذاته والمساهمة الإيجابية الفعالة في تطوير مجتمعه ذاته.وعلى أساس من هذا تتجسد مواقفه ومساهماته الإنسانية في بناء الصروح الحضارية لمجتمعه وللإنسانية جمعاء..إن إلتزام الإنسان بهذه الضوابط هو الذي يمنحه الحرية الحقيقية في البناء والتغيير والعطاء الإنساني..

وعليها يتوقف مدى نجاحه في ممارسة حريته أولا ومن ثم يتحدد موقعه ومكانته وأهميته في مجتمعه ومساهمته في حل مشكلاته الخاصة والإجتماعية..وهذا هو جوهر رسالته الإنسانية

 المتمثلة بعمارة الأرض وخدمة مقومات حياته وتطويرها بإستمرار ليرتقي إلى مستوى إنسانيته  المتحضرة وما فيها من ضوابط وما لها من قوانين..

إن المفهوم الليبرالي للحرية و القائم على الفردية التامة وممارسة ما يحلو لها والتصرف دون ضوابط تحد من تلك الممارسة , إنما هو ذاته المفهوم الذي أباح للإنسان التحلل من القيم الأخلاقية العامة وأوصله إلى ما هو فيه اليوم من تحلل وتفكك وشذود سلوكي من كل نوع..هذا التفكك الذي يصيب المجتمعات الإنسانية المعاصرة وما يرافقها من مظاهر التخلف الحضاري القيمي حتى وصل إلى تفكيك بنية الإنسان المعاصر ذاته حتى غدت أحادية الجانب متمثلة في الإلتفات فقط إلى مقومات حياته المادية وما فيها من أنانية وفردية وسيطرة الغرائزية على ما عداها من مقومات الإنسان الروحية والعاطفية والأخلاقية .. إن هذا المستوى الذي بلغه الإنسان المعاصر من التفكك هو الذي يبرر للقوي التحكم بالضعيف..ويبرر كل سلوك إنتهازي أو إحتكاري أو إستغلالي بشع يمارسه الأقوياء على الضعفاء..وهو ذاته الذي يقف خلف تبرير ظاهرة الإستعمار الذي تمارسه دول القهر والظلم على الشعوب والأمم المستضعفة فيسلبها قدرتها على إستثمار قدراتها المتنوعة لتطوير ذواتها وبناء مستقبلها المتحرر من القهر والإستغلال ..إن إقامة العدل ترتبط إرتباطا صميميا مباشرا بحرية الإنسان الحقيقية وحرية المجتمعات الإنسانية في حل مشكلاتها وتطوير واقعها دونما تسلط من الخارج ودونما تدخل يقهر إرادتها وقدرتها  على التطور والتقدم..

ومنذ أن إستفحلت سيطرة النظام العالمي الرأسمالي على مقدرات العالم ، إزدادت معاناة البشر وإزداد الظلم والقهر والتفاوت المقلق في مستويات الحياة والمعيشة حتى أصبح مجرد الحديث عن العدل أو العدالة الإجتماعية وكأنه لغو لا معنى له أو شر لا مكان له في لغة اليوم أو تهمة تلاحق صاحبه بأنه ” رجعي ” أو غير عصري أو يعيش في قوقعة ذاتية لا تنسجم مع مقتضيات الحداثة وما تستوجب من متغيرات تطال حتى أبسط قوانين العصر الحديث..أو أنه مستمد من لغة عفا عليها الزمن..والواقع أن نخبة ضئيلة العدد جدا من البشر يسيطرون على معظم موارد البشرية جمعاء ويتحكمون بالأرزاق والعباد في أغلب بقاع الأرض..فبات التحرر من هيمنة هذه النخب شرطا لازما وضروريا لتحرير الإنسان وإستعادة قدرته على الحياة اللائقة وعلى ممارسة حريته الحقيقية وإرتقائه الإنساني الذي يستحقه ويوصله إلى حياة حرة كريمة..

ومنذ أن إستفحلت وسائل العولمة الرأسمالية الفردية المادية ، طغت مفاهيم التفكير الإستهلاكي وسيطرتها على إهتمامات الإنسان فكرست أحاديته الفردية الغرائزية ومنعته من القيام بما تقتضيه رسالته الإنسانية العامة..فيتشكل نتيجة لهذا كله إنسان فردي لا ينتمي إلا لذاته وملذاته ومقتنياته المادية الذاتية..

تشكل العولمة الرأسمالية السائدة والتي تستحوذ على إهتمامات جميع فئات المجتمع ؛ خطرا داهما طاغيا يهدد هوية المجتمع الثقافية وقيمه الأخلاقية وتوجهاته المستقبلية..

هذه العولمة التي تنشر الثقافة الإستهلاكية والنزعة المادية الفردية وتكرس الذاتية النفعية معيارا للقيم والعلاقات ؛ وتسوق كل تفكير سطحي مبتذل وتسخف كل قيمة إنسانية وتفرغها من مضمونها الإيجابي وتفرض على الإنسان إهتماما وحيدا بالمظاهر وبحياة اللهو والتسلية والمتعة ؛ وتسوق لكل أنواع الشذوذ والإنحدار الأخلاقي ؛ إنما تضع الأسس المتينة لتفكك المجتمع ثم تفكك الأسرة ثم تفكيك الإنسان الفرد ذاته وتحويله إلى إنسان غرائزي أحادي الجانب تموت فيه كل دوافع الإنسانية والقيم الأخلاقية والإهتمام بأمور مجتمعه ومصيره ؛ وصولا إلى أن يفقد إحساسه بهويته ويتنصل من إنتمائه ليصبح ولاؤه لكل ما يشبع رغباته المادية وإحتياجاته الغريزية أيا كان وأيا كانت متطلبات الحصول على ذلك الإشباع..

وهذا هو النموذج الأصيل للإنسان اللا منتمي والذي لا قضية تحركه ولا هوية تعنيه ولا مشاعر تسنده..

وهذا بالتحديد ما تنتجه تلك العولمة الرأسمالية الفردية المادية الاستهلاكية:

” إنسان غير منتم إلا لذاته ومنافعه الخاصة..”

هكذا يصبح بلا هوية وبغير انتماء إنساني أو وطني أو قومي..فيفقد اهتمامه بقضايا مجتمعه أو وطنه وامته أو حتى بدائرته الإنسانية المصغرة..وهكذا تتعزز مقدرة النموذج الرأسمالي العالمي على التحكم بالجميع: إنسانا ومجتمعات وأمما وشعوبا..

إن الإنسان اللا منتمي هو الصيغة المثلى التي تحتاجها العولمة الرأسمالية لتأبيد سيطرتها وتحكمها بمقدرات البشرية وتوجيه حياة البشر بما تقتضيه مصالحها المادية المباشرة دون أي إعتبار للحرية والهوية والأخلاق ومصالح من لا يخضع لسيطرتها ويتبنى نموذجها اللإنساني واللا أخلاقي..

وحينما يفقد الإنسان إهتمامه بتطوير أبعاد شخصيته الروحية والعاطفية التي تعزز حضوره ودوره وتعطي لرسالته الحياتية معناها الحقيقي؛ يصبح إنسانا تقوده مقتضياته الغريزية إلى كل ممارسة عدوانية أنانية إستهلاكية دون إعتبار للقيم الإنسانية وضوابطها الأخلاقية..

[22:52، 2025/9/1] د. عبد الناصر سكرية. لبنان: لا يعني هذا أبدا أن المجتمعات البشرية تتساوى من حيث إصابتها بمثل هذه الظواهر..كما لا يقلل من شأن الكثير من الظواهر الإجتماعية – الإنسانية التي تظهر وتعبر عن ذاتها بأشكال متنوعة في مجتمعات الغرب ذاته والعالم كله رغم كل سلوك العولمة ومفاهيمها وثقافتها..وما ظاهرة التفاعل الشعبي العالمي العام مع فلسطين وحريتها والتي تجتاح مجتمعات الغرب ذاته ؛ إلا تدليلا على سلامة الفطرة الإنسانية النبيلة وعلى عدم قدرة كل مفاهيم العولمة المادية على إنتزاع أو طمس ذلك الجانب المشرق في شخصية الإنسان والذي يقوم على المشاعر الإنسانية والقيم الأخلاقية..ويبقى ذلك الأثر الإيجابي الذي ولدته تقنيات العولمة الإعلامية فجعلت الأحداث في متناول الجميع فوريا ؛ مما سمح بحالة متميزة من التفاعل الحر والحوار البناء بين البشر..وهذا يستدعي حديثا في كيفية محاصرة سلبيات العولمة وتعزيز الإستخدام الإيجابي المفيد لها..

كما لا يعني الإستخفاف بالمستوى المتقدم جدا للعلوم والتقنيات الحديثة وما رافقها من متغيرات على كافة مستويات البشر والحياة..وتبقى مجتمعاتنا العربية ومجتمعات العالم الثالث الأكثر تأثرا سلبيا بها حتى تكاد تفقد معظم مناعتها حيال مثل هذا الغزو الوجودي الشامل..

وهذا ما يستوجب بحوثا أخرى متممة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى