
لن يكون من قبيل المفاجأة أن نجد اسم اليهودي السوري – الأميركي، هنري حمرة، ضمن قائمة الثلث المُعيَّن من جانب الرئيس أحمد الشرع، في مجلس الشعب. فسليل عائلة الحاخامات الدمشقية، لم يتمكن من الفوز في الانتخابات التي أجرتها الهيئات الناخبة، قبل أيام.
ومن المرتقب أن يرمم الشرع الثغرات الناجمة عن العملية الانتخابية، والمتجلية في عدم عدالة تمثيل بعض الشرائح مقارنة بنسبتها من المجتمع. وينطبق ذلك على النساء وبعض الأقليات، وأبرزها المسيحيون.
لكن بالنسبة لليهود الذين بقي منهم أقل من عشرة أشخاص داخل سوريا، لن يكون تعيين هنري حمرة عضواً في مجلس الشعب،-إن حدث-، تصحيحاً لثغرة انتخابية. بل سيكون أمراً آخر تماماً. سيذهب في أحد اتجاهين. الأول، استعادة منطق الاستثمار السياسي الذي مارسه نظام الأسد البائد، بحق اليهود السوريين، على صعيد العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية، وعلى صعيد القنوات غير المباشرة المفتوحة مع إسرائيل. فيما الاتجاه الثاني، الذي نأمله، هو استعادة مكوّن أصيل من المجتمع السوري، وجذبه لإعادة إحياء دوره في بلده، على أساس المواطنة الكاملة.
أبقى حافظ الأسد، يهود سوريا، رهائن اللحظة المناسبة للاستثمار السياسي. فلا هو منحهم ظروف مواطنة كاملة تتيح لهم استعادة حيويتهم التاريخية في التكيّف مع المجتمع السوري، ولا سمح لهم بالمغادرة.
ونحن هنا نتحدث عن مكوِّنٍ بقي بصورة متواصلة لم تنقطع، منذ 15 قرناً –على الأقل- قبل القرن العشرين. إذ دائماً كانت مدنٌ كدمشق وحلب، تعرف وجود أقلية يهودية نشطة ومتفاعلة داخلها. وهو ما جعل محاولات الحركة الصهيونية لاختراق المجتمع اليهودي السوري، مطلع القرن العشرين، مُرهِقة لمبعوثيها. وذلك نتاج القرون الطويلة من الاستقرار والتكيّف اليهودي في البيئة السورية.
وخلال القرن العشرين، عرف اليهود السوريون لحظتين فارقتين في تاريخهم. الأولى بشّرتهم بتغيّر نوعي في وجودهم القائم سابقاً، على التكيّف. إذ ارتفعت رهاناتهم على وعود الأمير فيصل بن الحسين، عام 1918، بتأسيس دولة يحظى جميع مواطنيها، المسلمون والمسيحيون واليهود، بحق المواطنة الكاملة، وبمساواة حقيقية، لا وفق مبدأ “الملل”، الذي كان قائماً فيما سبق. فانخرطوا بممثلٍ عنهم في المؤتمر السوري العام عام 1919. وشارك حاخامهم إلى جانب رجال دين مسلمين ومسيحيين، في حفل تتويج فيصل، ملكاً على سوريا، عام 1920. واستمر تمثيلهم في الحياة السياسية السورية، خلال فترة الانتداب الفرنسي، في برلمان 1932. وبعيد الاستقلال أيضاً، في برلمان 1947. وذلك قبيل أن تأتي اللحظة الفارقة الثانية، التي أذهبت كل رهانات سابقتها.
إذ انقلب المزاج الشعبي السوري بحدّة، حيالهم، مع إرهاصات نكبة 48. كانت أبرز تلك الإرهاصات، ما حدث في مدينة حلب، عقب تصويت الأمم المتحدة لصالح قرار تقسيم فلسطين، في كانون الأول 1947. إذ اندفع شباب غاضب ومُعبأ نحو الحي اليهودي، لينخرطوا في أعمال عنف أدت لمقتل العشرات من اليهود، وإحراق منازل ودور عبادة. بعيد ذلك، فُرضت إجراءات تمييزية حيالهم، أنهت تماماً رهاناتهم السابقة بمواطنة كاملة. وفي العقود التالية، أخذت قدرة هذا المكوِّن، العتيقة، على الاستمرار والتكيّف، تتهاوى. وتراجعت أعدادهم من نحو 30 ألفاً في عموم سوريا، عشية الاستقلال، إلى نحو 5000 يهودي، في بداية حكم حافظ الأسد. وفي حقبة هذا الأخير، تحوّل اليهود السوريون إلى أداة للاستثمار السياسي. إذ كان مطلب رفع حظر السفر عنهم، على أجندة معظم اللقاءات مع المسؤولين الأميركيين، منذ وصوله إلى السلطة عام 1970. وفيما كان الأسد الأب يؤخّر قبول هذا المطلب، بانتظار الفرصة المناسبة لتحصيل ثمنه، نسَجَ علاقة مميزة مع حاخامهم الأكبر، حينها، إبراهام حمرة. والذي كانت تربطه صلات خفية بإسرائيل، اتضحت لاحقاً، في حقبة التسعينات. وللمفارقة، فإن إبراهام حمرة، هو شقيق الحاخام يوسف حمرة، وعمّ المرشح لمجلس الشعب، هنري حمرة. واللذان زارا دمشق مؤخراً، وأعلنا دعمهما الكامل للرئيس أحمد الشرع.
الأسد الأب، وبدفعٍ من العلاقة المميزة التي ربطته بحاخام اليهود السوريين، خفّف بصورة طفيفة -في منتصف السبعينات- تلك القيود التمييزية القاسية التي كانت مُطبقة عليهم منذ نكبة 48. لكن ذلك لم يحسّن ظروف حياتهم، بسبب طبيعة تلك القيود التي شملت التنقل والنشاط الاقتصادي والتوظيف والسفر، والحق في التصرف الحر بالملكية الخاصة، والتمييز في المعاملات داخل الدوائر الرسمية، والتي كان يفاقمها ختم “موسوي” الذي كان يُوضع على بطاقة الهوية الخاصة بكل يهودي سوري. ناهيك عن الخضوع للمراقبة الأمنية.
وهكذا أبقى حافظ الأسد، يهود سوريا، رهائن اللحظة المناسبة للاستثمار السياسي. فلا هو منحهم ظروف مواطنة كاملة تتيح لهم استعادة حيويتهم التاريخية في التكيّف مع المجتمع السوري، ولا سمح لهم بالمغادرة. إلى أن حانت الفرصة المناسبة للاستثمار. إذ تفكك الاتحاد السوفيتي، واندلعت حرب الخليج الثانية ضد العراق، وتغيّر شكل النظام الدولي باتجاه أحادية أميركية، ووجد حافظ الأسد أنه مضطر للتكيّف مع كل ذلك. فانخرط في عملية السلام بمؤتمر مدريد عام 1991، وفي العام التالي، أتاح لليهود السوريين، حرية مغادرة البلاد، شريطة عدم الذهاب إلى إسرائيل. لكن، لم تكن هناك أية أدوات تتيح التحكم بوجهتهم الحقيقية التالية. وبالفعل، أدار حاخامهم، إبراهام حمرة، عملية انتقال نحو نصف اليهود الذين كانوا ما يزالون في سوريا، إلى إسرائيل. فيما فضّل آخرون وجهات مختلفة. ومن أصل نحو 2500 يهودي في دمشق، قبيل رفع حظر السفر، لم يبق إلا بضع عشرات.
يجد اليهود السوريون أنفسهم مجدداً أمام لحظة فارقة. وإن كانت بصورة عكسية، تتعلق بإمكانية إعادة وصل بعضهم للعلاقة مع وطنه الأم.
وكان من الملفت، في هجرة اليهود من سوريا، على مدار العقود التالية للعام 1948، أن أكثر من نصفهم –على الأقل- لم تكن وجهتهم إسرائيل. فقد اتجهوا نحو الولايات المتحدة –بروكلين في نيويورك بصورة خاصة-، وإلى بريطانيا والأرجنتين والمكسيك، ليؤسسوا مجتمعات خاصة بهم هناك، احتفظوا فيها، بهويتهم السورية، وبثقافتهم المحكية، الشامية والحلبية.
وبعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول 2024، حاولت شخصيات بارزة ضمن المجتمع اليهودي السوري في الولايات المتحدة، أن تجس نبض “العهد الجديد”، وفي عقولهم، على الأرجح، تساؤل حول مدى صدقية هذا “العهد” في منحهم حقوق مواطنة كاملة. فتتالت زياراتهم إلى دمشق، وسط ترحيب وانفتاح السلطات، وصولاً إلى إعادة إحياء الطقوس الدينية في كنيس الإفرنج التاريخي بقلب دمشق. وخلال زيارة الشرع لنيويورك، في أيلول الفائت، التقى رئيس الكونغرس اليهودي العالمي، رونالد لاودر، المتحدر من أصول سورية. وهو أحد المنخرطين في مسار المفاوضات السورية – الإسرائيلية في تسعينات القرن الماضي، ومن الرافضين للتوسعات الإسرائيلية على حساب الأراضي السورية. وفي لقاء الشرع مع ممثلين عن السوريين المقيمين في الولايات المتحدة، تلقى 11 شخصية من اليهود السوريين دعوة للحضور، من جانب الخارجية السورية. وكانوا من المشاركين في اللقاء.
وهكذا يجد اليهود السوريون، أنفسهم مجدداً، أمام لحظة فارقة. وإن كانت بصورة عكسية، تتعلق بإمكانية إعادة وصل بعضهم للعلاقة مع وطنه الأم. وتضعهم هذه اللحظة بين احتمالين، يكرران ما عاشوه في القرن العشرين. احتمال المواطنة الكاملة. أو احتمال الاستثمار السياسي بهم، من جانب “العهد الجديد”، بغية الوصل بالولايات المتحدة، وبقنواتهم الواصلة إلى قلب إسرائيل. ويتوقف الاحتمال المنتظر تحقيقه، على صانعي القرار، داخل الأروقة، وعلى الأرض، في تركيبة الحاكمين الجدد، بدمشق.
المصدر: تلفزيون سوريا