
ثمة كلام في الصميم، قاله المبعوث الأميركي إلى المنطقة توماس برّاك أقر فيه، بصراحة، بفشل مشروع الولايات المتحدة في العراق، وأنها ارتكبت خطأ فادحاً في حربها على العراق، أدّى في واحدة من نتائجه إلى توغّل المليشيات المدعومة من إيران، واتساع نفوذها داخل البرلمان والائتلافات الحاكمة، وكان أحد أسباب سيادة الفوضى التي طبعت قرارات الدولة في ما بعد، وتوقع أن يدفع ذلك البلاد الى نمط من التقسيم يشبه ما حدث في دول البلقان، إذ لن يستقر هناك نموذج فيدرالي واحد، خصوصاً بعد تجربة وجود حكومتين، اتحادية في بغداد وكردية شبه مستقلة في أربيل، وهي التي تمتلك جغرافيا حقول النفط. لكن هذه الصيغة تحوّلت الى “فدرلة” ممزّقة، والتقسيم يجعل الفيدراليات تعيش زمناً قصيراً، ثم تتقاتل فيما بينها. ولذلك سوف تجد واشنطن نفسها، في النهاية، في وضع لا يسمح لها بإرسال قوات جديدة (لتصحيح الحال)، ولا لإنفاق مليارات إضافية كما فعلت في السابق.
تبيّن هذه القراءة السوداء التي قدمها توماس برّاك جملة حقائق معروفة من الجميع، لكن الجديد فيها أن يستعيدها مسؤول في الدولة التي شرعنت النظام السياسي العراقي الحالي، وأمدّته بخيوط الحياة، ثم أتاحت الفرصة لإيران للهيمنة عليه. ومن مكر التاريخ أنها عادت اليوم لتقرّ بخطئها الفادح، وتخطّط حاليا لإنهاء انخراطها العسكري الواسع في العراق، وربما في المنطقة أيضا، مكتفية بدور دبلوماسي وأمني تمثله سفارتها في بغداد وقنصليتها في أربيل، تاركة الملفات الصعبة التي كانت طرفاً في صنعها وإدامتها أزيد من 20 عاما في عهدة النظام الهجين نفسه. وهي، بهذا القرار، تكون قد شعرت، وبعد أكثر من عقدين على غزوها العراق، وإسقاط نظامه الوطني، بضيق الخيارات المتاحة أمامها، وفشلها في إنتاج نظام “ديمقراطي” في بغداد، لكنها سوف تعمل على تحجيم الدور الإيراني في العراق، في نوع من المراجعة ونقد الذات، وربما أيضا محاولة للتكفير عن الخطيئة التي ارتكبتها، ومن دون أن تتورّط في مواجهة مباشرة، لها تبعاتها الثقيلة التي قد تسبّب لها، وحتى للعراق أيضا، مزيدا من الخسائر.
إلى ذلك، تضع هذه التداعيات العراقيين في موقع لا يملكون فيه ردّاً لما يحدث من حولنا، وأخطر ما يواجهونه اليوم ليس في عدم قدرتهم على تجاوز ما تعرّضوا له من محن وأدواء على يد الأميركيين والإيرانيين معا، ولا على حماية وطنهم، وضمان مستقبلهم فحسب، وإنما الخطر الأكبر هو في عدم اكتراثهم بما يحتمل أن يحيق بهم من مصائب ونكبات أخرى، وبما قد يودي بحاضرهم وبمستقبل أجيالهم. والأكثر مرارة من هذا كله أن من يقرع الجرس أمامهم لينبههم إلى ما قد يحدث لهم أحد رجالات الدولة التي خاصمتهم، وغزتهم، ووضعت مقاديرهم بأيدي دولة “الولي الفقيه” التي رأت في هيمنتها على البلد الجائزة الكبرى التي لم تكن تحلم بالحصول عليها من قبل.
لا نظام سياسي سليم، ولا اقتصاد منتج ومثمر، ولا تنمية مخطط لها
هكذا العراقيون اليوم، ومن أزيد من 20 عاماً يخرجون من مأزق ليسقطوا في آخر، لا نظام سياسي سليم، ولا اقتصاد منتج ومثمر، ولا تنمية مخطط لها، ولا مجتمع متحرّر من الضغائن والأحقاد، وقبل هذا كله ليس ثمة مشروع وطني حقيقي يحفظ وحدتهم، وسلامة أرضهم، وحرية مواطنيهم.
وفي كل موسم يقال لهم: انتظروا قليلا فكل شيء بحساب، وسيأتيكم الخير من حيث لا تحتسبون، لكنهما في كل مرة يكتشفون أن لا شيء يحدث، ولا أحد يجيْ، وها هم الأميركيون الذين صنعوا لهم كل هذا الخراب والدمار يندبون حظهم لأنهم استثمروا في فعلتهم تلك، بحساب برّاك نفسه، ثلاثة تريليونات دولار، وخسروا مئات آلاف الأرواح، وخرجوا بلا نتيجة. أما العراقيون فقد خسروا الوطن والمواطن معا، وها هم يتخبطون في سيرهم، ولا يعرفون إلى أين سيصلون.
ولا ضير في النهاية من أن نعيد طرح السؤال الذي سأله برّاك: “ما هو الشكل الصحيح لإدارة العراق إذن؟”، وأجاب عنه بنفسه: “لا أعرف، لكن هذا الشكل ينبغي أن تقرره المناطق، والشعوب، والقبائل، والثقافات”.
هل يسخر برّاك من العراقيين بجوابه اللغز هذا؟ لا نعرف.
المصدر: العربي الجديد






