
أحداث كثيرة ومتسارعة يشهدها العالم، وتواريخ متعاقبة ستطبع ذاكرة التاريخ والناس في أرجاء المعمورة؛ اعترافات بالدولة الفلسطينية؛ مقاطعات سياسية وأكاديمية وفنّية ورياضية للاحتلال؛ إلغاء عقود شراء أسلحة من دولة الاحتلال لم يسبق لها مثيل؛ تهديد بعض الدول بإلقاء القبض على مجرم الحرب نتنياهو إذا عبرت طائرته الأجواء الوطنية، ورفض مبطّن من بعضها لهبوط طائرته فيها؛ عشرات المدن في أوروبا وأميركا اللاتينية تلتحق بالتظاهرات الشبابية والطلابية، التي بدل أن تتوقّف أو تتراجع جراء المنع والقمع والقرارات التجريمية المستعجلة واستمرار الحرب، أخذت في التزايد والتوسّع. ارتفعت بشكل ملحوظ دعوات فنّاني العالم وممثّليه من هوليوود إلى فينيسيا، منهم من وقّع إدانات (أكثر من 500 فنان ومخرج وتقني سينما) ضدّ الإبادة في غزّة، ومنهم من تجاوز الخطوط الحمراء بمخاطبة الجمهور في مناسبات توزيع الجوائز. حصل ذلك في أكثر من مهرجان، كما حدث في أثناء عرض فيلم “صوت هند رجب” في مهرجان فينيسيا السينمائي، إذ وقف الجمهور المتأثّر بالفيلم وهو يصفّق عشرين دقيقة، وسط هتافات تحيا فلسطين والعلم الفلسطيني، ليعرض الفيلم في السينما في مختلف العواصم الغربية بزخم وحضور كبيرين. وأخيراً وقّع 47 لاعبَ كرةِ قدمٍ عالمياً عريضةً تطالب بمقاطعة المنتخبات الرياضية الإسرائيلية، ومنعها من حضور أيّ مباريات. وينسحب الأكاديميون من المؤتمرات التي يشارك فيها باحثون إسرائيليون ليعبّروا عن رفضهم التعاون مع الجامعات الإسرائيلية التي تتواطأ مع حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، ليُعزَل كيان الاحتلال أكثر وأكثر، كما عُزِل نظام جنوب أفريقيا العنصري قبل عقود. أمّا تتابع اعتراف دول العالم بالدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، والصفعة التاريخية لخروج وفود دول أعضاء في المؤسّسة الأممية لحظة إلقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي كلمته، فهي أكثر من مواقف داعمة للشعب الفلسطيني حول العالم. إنها مواجهة مباشرة لسياسة الكيان الصهيوني، يتحوّل بعضها، كما في موقف الرئيس الكولومبي، مقاومةً حقيقيةً شجاعةً لا ترهبها آلة إسرائيل الإعلامية، ولا عقوبات ترامب، ولا تهديدات نتنياهو لهم في خطابه في الأمم المتحدة.
احتجاجات قوية تسند المقاومة الفلسطينية ومعركتها علناً، تواجه فيها الجماهير المتظاهرة في أميركا ودول أوروبية، القوانين الحكومية المفروضة عليها بشكل واسع، بتعليمات وأوامر من اللوبيات الصهيونية، بل تضع بعض الأحزاب في مواجهة حادّة مع حكومات دولها اليمينية الداعمة للكيان الصهيوني وحكومته الفاشية متحمّلة ملاحقة خشنة بلا هوادة، كما يحصل في فرنسا من مهاجمة وتخريب مقارّ عدد من نواب حزب فرنسا الأبية. ورغم اعتداءات وتهديدات على النائب إيمريك كارون، وزملاء آخرين له في الحزب، لم يتراجع عن رفع صوته من أجل غزّة، بل يصرّ في كل مناسبة على تحدّي اللوبي الصهيوني وأدواته الإعلامية، حتى إنه بدأ بمقاضاة أكثر شخصية صهيونية معادية للشعب الفلسطيني، تحاربه وتحارب حزبه وتمنع حرية التعبير بخصوص فلسطين، وهو برنار هنري ليفي، زعيم الدعاية الصهيونية الكبير في الساحة الفرنسية. كذلك الهجوم الجماعي لصهاينة فرنسا غير المسبوق على سكرتير الحزب الاشتراكي أوليفييه فور، الذي دعا إلى رفع العلم الفلسطيني في كل بلديات فرنسا بمناسبة الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية. ورغم الضغوط لمنع هذا الأمر رفعت 52 من بلديات فرنسا العلم الفلسطيني، متحدّيةً قرار وزير الداخلية وتعليماته، كما اعتُقل النائب السابق في حزب العمّال البريطاني جورج غالاوي وزوجته من ضبّاط مكافحة الإرهاب بشكل غير مبرّر، لا يمكن تسميته إلا بـ”الترهيب السياسي”، بسبب مواقفه الداعمة لفلسطين. ووصل الأمر إلى حدّ إلغاء تأشيرة الرئيس الكولومبي غوستابو بيترو للولايات المتحدة، لانضمامه إلى تظاهرة مؤيّدة للشعب الفلسطيني في شوارع نيويورك، تدين الإبادة الجماعية.
تهتز في إيطاليا حكومة جورجيا ميلوني باستمرار على وقع تظاهر ألوف الإيطاليين، مطالبين الحكومة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية ووقف التعاون مع الكيان المحتل
غوستابو بيترو صاحب الكلمة التاريخية الأقوى بين كلمات الدعم للشعب الفلسطيني التي ألقيت من منبر الأمم المتحدة. الرئيس الكولومبي، الثائر الأميركي اللاتيني، حفيد بوليفار، الذي يعرف دروب النضال ودروسه جيّداً، تحدّث بوعي المناضل والمقاوم المتمرّس بالكفاح ومواجهة الاستعمار الصهيوني الذي تشابه سياساته استعمار الإبادة والقمع والعنصرية الذي عرفته أميركا اللاتينية. قال بيترو إنه ليس هناك جدوى من الإدانات وعبارات الكلام الجاهز. خاطب دول العالم بالقول إننا باسم الإنسانية ندعو إلى تحرير فلسطين، وإنه إذا أنقذنا فلسطين أنقذنا الإنسانية، وإذا قُضي على فلسطين فسيقضى على الإنسانية. قال نحن في حاجة إلى جيش لحفظ السلام العالمي تحت شعار متّحدون من أجل السلام، جيش من الدول التي لا تقبل بالإبادة الجماعية وتريد إنهاءها. كما اقترح بيترو حلولاً قانونيةً يسمح بها الوضع العالمي اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، وهو التصويت على وقف الإبادة الجماعية، ومن ثمّ تشكيل قوة عسكرية تسمّى بـ”جيش الإنقاذ”، لإسكات سلاح دولة الاحتلال، وإيقاف دعم كبرى الشركات العالمية المساهمة في المجهود الحربي الصهيوني ضدّ الشعب الفلسطيني وضدّ غزّة.
ولم يقتصر دعم دولة إسبانيا على الإدانة والشجب، بل إن هذا البلد، حكومة وشعباً، هو البلد الذي لن تُنسى مواقف ملكه ورئيس وزرائه ووزير خارجيته، فلسطينياً وعربياً ودولياً، في هذه الحرب، إذ كانوا السبّاقين في تعليق صفقات بيع الأسلحة وطالبوا بقوة بتعليق عضوية الكيان في معاهدة الشراكة مع الاتحاد الأوربي، وتمتلئ شوارع المدن الإسبانية بالمتظاهرين الذين يعبّرون عن دعمهم للشعب الفلسطيني من دون أن يواجَهوا بقمع أو اعتداء من الشرطة، كما هي الحال في بعض الدول الغربية. ومن القارة الأوربية صدح صوت مؤثّر لرئيسة جمهورية سلوفينيا ناتاشا بيرس موزار، التي تصدّرت حكومتها صفوف الاعتراف بالدولة الفلسطينية والإدانات والعقوبات الدولية على دولة الاحتلال منذ البداية. وجّهت الرئيسة خطاب تأنيب إلى أوروبا، وقالت إنها لم تمنع الهولوكوست، ولم توقف مجزرة رواندا، ولم توقف الإبادة في سربرنيتسا. وشدّدت أن عليها أن توقف الإبادة في غزّة، لأنه لم يعد هناك عذر.
تحول بعض المواجهة المباشرة مع سياسة الاحتلال، مقاومةً حقيقيةً، كما هو موقف غوستافو بيترو
تهتز في إيطاليا حكومة جورجيا ميلوني باستمرار تظاهر ألوف الإيطاليين منذ أسابيع، مطالبين الحكومة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية ووقف التعاون مع الكيان المحتل. وهدّد العمال ونقاباتهم في الموانئ والمطارات بمنع تصدير شحنات السلاح إلى الكيان، وحذّروا حكومة نتنياهو من المسّ بأسطول الصمود والحرية المتجهين إلى غزّة لكسر الحصار عنها. هذا الأسطول الذي أبحر بدايات الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، يتألف من سفن وقوارب حملت مئات الناشطين والداعمين لفلسطين من مختلف أنحاء العالم، منهم نواب فرنسيون وإسبان وإيطاليون ودبلوماسيون وفنّانون وممثّلون. هو مبادرة، وسابقة عالمية، لمنظّمات المجتمع المدني التي لم تنقطع إرسالياتها سفينة بعد أخرى، وتحظى بمتابعة واسعة في العالم عبر مواقع التواصل التي تنشر أخبارهم، وتتواصل معهم القنوات التلفزيونية وقنوات الإعلام البديل. المشاركون في الأسطول عازمون بقوة على كسر الحصار الصهيوني، وأظهرت تصريحاتهم تحدّياً وتصميماً للذهاب بهذا الأسطول حتى النهاية، إلى غزّة المحاصرة.
ودفعت حرب الإبادة على غزّة إلى تحوّلات واستفاقة وعي في القاعدة الشعبية الأهم للرئيس ترامب، رغم أنف نتنياهو، الذي بات يراقب تصدّع السردية الصهيونية الواسعة والمترسّخة منذ عقود لدى شريحة “MAGA” من الشعب الأميركي. أما في فرنسا، حيث تستمرّ التظاهرات والاحتجاجات الشعبية والحزبية أسبوعياً في باريس، ورغم الأجواء المكارثية التي يجتهد اللوبي الصهيوني بكل ما أوتي من نفوذ وسطوة لفرضها، ووأد الكلام عن حرب الإبادة من المشهد الإعلامي بالكامل، ومنع ومحاربة أيّ صوت فرنسي يبدي أقلّ تضامن مع غزّة والشعب الفلسطيني، تستمرّ أصوات إعلامية لها مكانة معتبرة، ومتابعين يتجاوز أعدادهم المليون، إدانه غطرسة الاحتلال، إذ عاد الصحافي الفكاهي غيوم ميريس، الذي سبَّب إقالتَه اللوبي الصهيوني بداية الحرب على غزّة لتهكّمه على مجرم الحرب نتنياهو. عاد إلى تشريح الكيان الوحشي وجرائمه بمبضع النكتة والسخرية اللاذعة والذكية. وبثّ الصحافي المعروف دانييل ميرميه مقابلةً في موقعه مع جدعون ليفي، صحافي “هآرتس” بعنوان: “أصبح من الواجب ان تكون معادياً للصهيونية”. لتكون هذه الجملة هي الرسالة التي توجّهها اليوم الأصوات الحرّة الرافضة لحرب الإبادة والمجاعة في أنحاء العالم. الأصوات التي تنقل الحقيقة عن الحرب التي يشنّها الكيان الصهيوني منذ عامَين، بمشاركة أميركية بريطانية فرنسية.
المصدر: العربي الجديد