
هذا ليس عنوان فيلم من أفلام السينما المصرية، بل هو واقع حال شريحة لا بأس بها من السياسيين والنخب والمثقفين المُسيّسين اللبنانيين، الذين تغصّ بهم الفضائيات اللبنانية وقنوات البث التلفزيوني، حيث يشعر المراقب في لحظة، بأنهم هم المعنيون فعليا بسقوط نظام دمشق، الذي حكم البلاد والعباد بالحديد والنار، وذلك على قاعدة: «ملكيون أكثر من الملك»، مع أن أسلوب الامتهان والاحتقار الذي كان يتعامل فيه النظام السابق ومخابراته معهم، تدعوهم لكي يكونوا فرحين أكثر من الشعب السوري نفسه.
ومع ذلك فإنه ليس من السهل عليهم تقبل ما حدث، ويحدث في سوريا منذ السابع من كانون الأول، والذي كان بمثابة زلزال، غير كل المعطيات والثوابت، ليس بالنسبة لهم فقط، بل على صعيد كل المنطقة، وخصوصا بالنسبة لأولئك الذين كانوا مستفيدين من النظام البائد، وبنوا كل وجودهم وأحلامهم على بقائه، والذين غدوا من بعده كالأيتام، بل كقطعان من العبيد ضاعت بوصلتهم مع غياب سيدهم «الراعي» عن الساحة، متناسين أن الحكام أيًا كانوا زائلون كالظلال..
لقد انقلبت حساباتهم رأسا على عقب، وشعروا بالإحباط، بعدما خيبت بعض الدول الغربية ظنهم، بأن أرسلت لهم بإشارات تؤكد أن الموضوع السوري أصبح على طريق الحل، وأنهم سوف يمارسون انفتاحا سياسيا على نظام الطاغية، بعد أن يقوم بعملية تجميل شكلية لسلطته، ويتخلى عن بعض جلاوزته وسفاحيه. وأنهم سوف يتجاوزون عن كل سيئاته وجرائمه، طالما أن مصالحهم سوف يتم تأمينها، كعادة الغرب المُتغني بحقوق الإنسان والحريات والديموقراطية، والذي سريعا ما يتناسى كل هذه الشعارات المُعلبة التي يجترها ساسته وإعلامه، ويضع جانبًا المبادئ التي ينادي بها على رؤوس الأشهاد، في مقابل تحقيق مصالحه، ولا شيء آخر…
لقد وضعت شريحة من اللبنانيين فجأة كل مشكلاتها، ومشاغلها، ومآسيها اليومية من كهرباء لا تزور بيوتها إلا لسويعات، والماء الملوث الذي يشربونه، وتناست التحالف المقدس بين ساستها وأصحاب البنوك في أكبر عملية سرقة وسطو على أموال المودعين عرفها العالم، وكذلك احتلال الكيان الصهيوني لأجزاء من جنوبهم، والدمار الهائل في ضاحية عاصمتهم، والمئات من الشهداء الذين ما تزال جثثهم تحت الأنقاض والركام… وتوجهت تلك الفئة بأبواقها وانتقاداتها نحو سوريا، التي بدأت لتوها تنفض غبار خمسة عشرة عاما من القتل والدمار، والتجويع، والتعذيب، والتشريد، والتغييب القسري، والعصر بمعاصر لحوم البشر.. متجاوزين فلسطين وغزة هاشم ومآسيها التي يدعون الدفاع عن مقاومتها، مع أنهم حتى اليوم لم يُنظموا في العاصمة بيروت مهرجانًا خطابيًّا واحدًا ذا قيمةٍ، أو تظاهرةً جماهيرية تليق بتضحيات شعب غزة وصموده الأسطوري قولًا وفعلًا.. واضعين جانبا شعارات المقاومة، التي كانوا يرفعونها عن غير قناعةٍ، والتي كانت وسيلة لمزايدات سياسية داخلية بالنسبة للبعض، وتجارة واسترزاق بالنسبة لآخرين..
لقد أصيبوا بغشاوة، فأصبحوا لا يرون إلا لون بذلة وربطة عنق الرئيس السوري، الخارج من رحم ثورة لم تبخل بالأرواح الطاهرة والدماء الزكية، وكيف دخل إلى قاعة الاجتماعات، وأين صلّى، وأين تغدّى، ومن كان بجانبه.. وغيرها من التفاهات التي إن عبرت عن شيءٍ فهو ضحالة ومستوى تفكيرهم. لقد غدوا أسرى لغرائزهم وحقدهم الطائفي والمذهبي، بعدما فقدوا مواقعهم الاجتماعية والسياسية التي منحها لهم جلاوزة النظام البائد. فأخذوا لا يتركون وسيلة لتثبيط عزائم السوريين وتخويفهم من النظام الجديد إلا وفعلوها… ابتداء من التقسيم، وبأنه “داعشي”، سوف يدخل عليهم بيوتهم بالحراب والسكاكين، وانتهاء بالتبشير بحرب أهلية شعواء، لن تبقي ولن تذر، وكأن الشعب السوري طيلة الخمسة عشر عامًا الماضية، كان يعيش في أمن وأمان، وفي ربوع جنات النعيم..
حتى وصل الأمر بالبعض إلى مطالبة الحكومة بطرد وترحيل المُهجرين اللاجئين السوريين على أرض لبنان، ولا أدري إن كان هؤلاء يعلمون أو لا يعلمون، أن هؤلاء اللاجئين ورقة يا نصيب رابحة بالنسبة للسياسيين وأزلامهم، حيث قبضوا إيجار أراضي المخيمات من الهيئات الإنسانية والأممية أضعاف ما تستحقه، ودخل جيوب ساستهم وكبارهم ملايين بل مليارات الدولارات، لقاء وجود المهجرين على الأراضي اللبنانية.. وليت الهيئات الدولية، والأمم المتحدة، تكشف عن حجم الأموال التي دخلت خزينة الدولة والجيوب، وصناديق الجمعيات الإنسانية اللبنانية التابعة للساسة، والتي بعضها شبه وهمي، وذلك لقاء توزيع بعض المعونات، وطبابة هؤلاء المُهجرين المساكين، ودخول أبنائهم المدارس، التي كانوا يُعاملون فيها بعنصرية قميئة، وطائفيةٍ بغيضةٍ، من قبل بعض المُدرسين، وبعض الأهالي، واستغلت فئة نساءهم وبناتهم للخدمة في بيوت بعض السادة المتنفذين بالسخرة، وبشكل أقرب إلى العبودية من أي شيء آخر.
وسقطت إنسانية كثير من اللبنانيين الحاقدين والعنصريين في المراحيض في كثير من المواقف.. كم أتمنى أن تُفْتح تلك الملفات البشعة والأليمة، التي لا تنم عن أخلاق، ولا عن إنسانية يتغنون بها كذبا ونفاقا على شاشات الفضائيات، فكانوا صورة طبق الأصل عن “نظام البراميل” والقمع، ورديفا له، بل أكثر عُهْرًا في كثيرٍ من الأحيان من جيرانهم الصهاينة في تعاملهم مع الفلسطينيين..
إن حزن هؤلاء هذا، لا علاقة له بمبادئ، ولا بوطنية، ولا بمستقبل وطن اسمه سوريا، ولا مستقبل أبنائه، ولا حتى بمستقبل وطنهم لبنان ومواطنيهم. ومن حقهم فعلا أن يحزنوا، فهم لم يعيشوا لحظات انفجار البراميل المتفجرة المدمرة فوق الرؤوس، ولا الموت غرقا، ولم يقاسوا ويلات القصف والتدمير العشوائي، والقتل الطائفي على الهوية، الذي كانوا يعتبروه مجرد أفلام “هوليودية”، ولم تتكدس جثث أبنائهم في البرادات المخصصة لنقل الفاكهة، التي عرفها أبناء وطنهم الطرابلسيون، ولم تتساقط الصواريخ الثقيلة من كل الأنواع ليلا ونهارا على رؤوسهم كما حصل في طرابلس أيضا، ولم يعرفوا سجون النظام الترفيهية والإخفاء القسري، الذي عانى منه لا أقول السوريون فقط، بل حتى مواطنيهم في طرابلس والشمال وعرسال وبيروت وبعلبك وغيرها، والذين إلى الآن ما يزال يوجد المئات منهم لا يُعرف مصيرهم.. وعلى ما يبدو أن حزنهم هذا على نظام أفلت شمسه، سوف يستمر طويلا، إلى أن يقتنعوا أن التاريخ لا يعود إلى الوراء، وأن القافلة في سوريا تسير نحو سوريا الجديدة وطنا ونظاما، الذي وصفه الرئيس الشرع في أول ساعة دخل فيها إلى العاصمة دمشق بـ«دولة المواطنة». ولكن كيف يعرف المواطنة عبيد الطائفة والحقد المذهبي…!؟
وليتهم يدركون أن سوريا ليست مجرد دولة عادية، وقطعة أرض، ومساحة جغرافية تقع بجوار لبنان، بل هي أكبر من ذلك بكثير. إنها سوريا الدور والتاريخ، وأحد أركان العروبة وقلعتها.. والنظام الجديد قي سوريا يغرس أقدامه، لأنه من الشعب، ومن رحم دماء شهدائه، ومن عمق مأساة السوريين الذين قاسوا الأمرين.. ويثبت في كل يوم للعالم، ولدول الجوار، أن شعب سوريا مُخْتلف ثورةً وانتصارًا ومزاجًا، وفي مواجهة كل أنواع التحديات. وأنه عندما قرر الخلاص من نظامه، قدم من أجل ذلك قرابة المليون شهيد، وكل أنواع التضحيات، فغير بدمائه الطاهرة نظام القمع الذي حكم سوريا بالحديد والنار لعقود، وهو اليوم لا ينتظر دروسا من أحد. وأن هذا الشعب ليس بأقل إبداعا وفكرا وثقافة من بقية شعوب المنطقة، هذا إن لم يكن في طليعتها، وأشد عزيمة وإصرارا على بناء دولة الحداثة والديمقراطية، وإعادة إعْمار مدنه وقراه المهدمة، وأنه لن يقبل بالعودة إلى الوراء ولو خطوة واحدة.. وهو ما أنبأ به شاعرهم نزار عندما قال يومًا: «والبقية تأتي..»، وسوف تأتي حتما..
المصدر: المدار نت