نجحت السنوات العشر من الحرب التي فرضها النظام السوري على الشعب في تغيير أولويات السوريين الذين يعيشون تحت حكم فساده من جهة، أو تحت شظايا قصفه الجوي في الجهة المقابلة. كما كشفت الحرب الطويلة جشع المسؤولين في كيانات المعارضة السورية ونهمها للمناصب والامتيازات، على حساب المبادئ والأولويات للثورة التي انطلقت في مارس/ آذار عام 2011، وطالبت بحقوق المواطنة والمساواة والعيش الكريم ومحاربة الفساد، ما جعل سوريين كثيرين ينشغلون بهموم حياتهم اليومية، ونشرات الأسعار المتبدلة لاحتياجاتهم المعيشية، بديلا عن أخبار التفاوض بين وفود النظام والجهات المعارضة له أو المتنافسة على سلطاته.
وبينما تكثر أخبار الوقائع المؤسفة على صفحات السوريين في مواقع التواصل الاجتماعي التي تحكي تفاصيل قهرهم وفقرهم وعوزهم ومعاناتهم مع فيروس كوفيد 19 الذي يحصد أرواح أحبتهم، وحكايات القتل والاغتصاب والولادات في جنح الظلام، والمواليد المرمية على أبواب المساجد وفي حاويات القمامة، تتجاهل تلك الصفحات وقائع ما يحدث سياسياً بين النظام والمعارضة، أو تتعاطى معها كأنها “نكتة” للترفيه عن الذات، وكأن الأمر يحدث في عالمٍ آخر لا ينتمي إلى بيئتهم المحلية، أو يتعلق بمصيرهم، باعتبار أن المتنفذين أو المسؤولين في الطرفين يدّعون تمثيل السوريين سواء كانوا من رعايا النظام، أو في بيئات معارضة له.
لم تعد المطالب السياسية العادلة محور الحياة في سورية (أقصد السوريين الذين يعيشون داخل حدود سورية)، بعد أن أغرق النظام وشرائح محسوبة على المعارضة الشعب في حالة من الفقر والعوز، سواء في مناطق حكم النظام، أو في مخيمات اللجوء التي تحولت المساعدات المخصصة لها إلى حالة إثراء غير شرعية لبعض المعارضة، أو المنظمات التابعة لها، بالتساوي مع ما حدث في مناطق النظام وتنامي شريحة تجار الحرب، فتصدّرت مطالب العيش الكريم ومحاربة الفساد المالي على حساب المطالب السياسية، بعد أن أصبحت الطبقة السياسية في الجانبين تعيش حالة الفساد “المشار إليه”، والتمسّك بمزايا المناصب على حساب المسؤولية الأخلاقية والمصلحة الوطنية.
وفي الوقت الذي بقيت الشعارات السياسية متداولةً بأعلى سقف لها، خاصة بالسوريين المتنعمين برفاهية “اللجوء” في أوروبا، أو بأسماء مستعارة على مواقع التواصل التي يتصدرها فيسبوك، وطبعا بين المستفيدين من الصراع بالحفاظ على مواقعهم وامتيازاتهم التي توفرها منصّاتهم السياسية، وحاجة وظائف هذه المنصّات إلى استمرار الوضع على ما هو عليه، لمزيد من الاستمرار به والاتّجار فيه، مع إمكانية طرح التنازلات التي تفرضها عليهم الجهات الراعية لمنصاتهم، ومثال ذلك ما يطرحه الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية من أولويات متغيرة، حسب وجهة نظر رعاته، حيث يصبح النظام عدوا يمكن التفاوض معه، بل وتقاسم السلطة أو الحصول على بعض ميزاتها معه، بينما يتصدّر العداء لـ “الكرد” لائحة أولوياتهم، ما لم يتغير موقف تركيا منهم، من دون حتى الالتفاف على الأمر، وتصديره على أنه دفاع عن وحدة سورية وضرورة التزام الأطراف بها.
مجاهرة رئيس “الائتلاف” نصر الحريري بأولوياته للمبعوث الأميركي الجديد، جويل ريبون، بحضور المبعوث، جيمس جيفري، خلال اللقاء الذي جرى في تركيا أخيرا، وخشيته من وصول المعارضة إلى دمشق قبل الحسكة، هي مجرّد حاجة لرفع القناع عن حقيقة استمرار عمل “الائتلاف” وهدفه، في ظل وجود هيئة تفاوض، تتساوى في المهام المعلنة مع “الائتلاف”، ما ينفي الحاجة لوجوده سورياً، ليبقي على مهامه في حماية المصالح التركية في المفاوضات مع دول الصراع على سورية، وإدارة المناطق المسيطر عليها تركياً، وتديرها القوى الفصائلية المسلحة تحت الإدارة التركية.
يعرف السوريون حقيقة كل الوفود، وتبعيتهم المطلقة لمموّليهم. ولهذا لم يعد التعويل على لقاءاتهم، أو حتى التكهن بنتائجها ضمن أولوياتهم، وفي نطاق حواراتهم. وعلى الرغم من مآسيهم، فقد وجدوا في مناسباتٍ كثيرةٍ للنظام والمعارضة لوحاتٍ فكاهية للترويح عن أنفسهم وتأليف “النكت” حولها، لتتحوّل شخصيات بعضهم إلى شبه رموز كرتونية شريكة للنظام في صناعة “دراما” حياتهم الحزينة.
في العموم، غابت أصوات معارضة كثيرة خلال هذه السنوات، أو غيّبت كحال معظم شرائح المجتمع السوري، ولم تبق إلا أصوات أوجاعهم يرسمونها في تصوير قصصهم البسيطة و”أولوياتهم المستعجلة”، كالخبز والماء والكهرباء على مساحات التواصل الاجتماعية، ظناً منهم أنها بعيدة عن السياسة، ولكنها في الحقيقة تختصر كل سياسة النظام والمعارضة، العربية منها والكردية والتركمانية وغيرها، في “تكفيرهم بواقعهم” .
نجحت موسكو في إقناع النظام وإعادة وفد اللجنة الدستورية إلى جنيف لمناقشة المبادئ الوطنية مع الوفد “اللا وطني”، وفد النظام التركي، حسب رئيس وفد النظام، أحمد الكزبري، وإعلامه. ونجح النظام في أخذ ما يريده من الحجج والوقت، للاستثمار في ما تبقى من الفترة الرئاسية لبشار الأسد، والتحضير للانتخابات المقبلة في ظل مجلس الشعب، المنتخب حديثاً وفق قواعد الفساد التي تحدّث عنها أزلام النظام نفسه، مثل رئيس اتحاد غرف الصناعة، فارس الشهابي، والذي يتحتّم عليه توقيع ترشيح الرؤساء القادمين للولايات الرئاسية، ومن بينهم بشار الأسد لولايته الثانية وفق دستور 2012 والرابعة له من عام 2000 حتى 2021، وهو الدستور الذي لا يمانع الأسد ونظامه من تجديد تحديثه، ليستوعب فترتين رئاسيتين جديدتين للأسد، تماشيا مع ولاية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الممتدة حتى 2036، وتحت الرعاية الأممية، وفي ظل معارضة أجندتها مصالح الدول التي ترعاها.
غابت أخبار التفاوض، وحضرت أخبار فيروس كورونا حتى ضمن الوفد المفاوض، وضاع السوريون بين نظام يحكمهم بالفساد والتبعية ومعارضة تنافس على تولي الفساد نفسه والتبعية نفسها، حتى في حكم بقعهم الصغيرة التي يتولون إدارتها على مبدأ مناقصات من الداخل ليس أكثر، ما شجّع النظام على التمادي في طرح شروطه، وتسيير الاجتماعات وفق أجنداته، وجدوله الزمني، البعيد والقريب.
المصدر: العربي الجديد