البناء على الرباعية بشأن السودان أجدى من رفضها

عمر العمر

        

ربّما يحتاج السودانيون إلى معجزةٍ تطفئ الحرب، فمسار العمليات العسكرية لا يؤشّر إلى انتصار أحد طرفَيها. على النقيض، تبدو النتائج الراهنة سيئةً على نحو يجعل النصر المُدَّعى هزيمةً لا محالة. الشعبُ وحدُه يتحمّل (على اختلاف انتماءاته الإثنية والجهوية) عذاباتٍ بلا حدود، ويدفع فاتورةً فادحةَ الكُلفة في المديَين الراهن والبعيد. مع ذلك، يُصرّ أنصار الحرب على مطاردة شبح النصر تحت شعاراتٍ وهميةٍ، وسط برك الدم، وأكداس الجثث، وركام ما تبقّى من البنى العامة والخاصة. فلا ديمقراطيةَ على فوّهات البنادق، ولا كرامةَ لشعبٍ تفرّقت به سبلُ الذلّة في الداخل والخارج. ربّما تأتي مبادرةُ المجموعة الرباعية بارقةَ أملٍ للخروج من مستنقع الدم والدمار، إذا قوبلت بعقلية منفتحة على الإفادة من التجارب، بما في ذلك تجربة الحرب الكارثة. فطرفا الحرب مثلُ الشعب قاطبةً، يحتاجان إلى طوق نجاة بغية الإفلات من الغرق. المبادرة تحريضٌ على السلام، وليست إملاءً للشروط كما يحاول أنصار الحرب شيطنتها.

أنصار الحرب بلغ بهم الافتراء على الشعب تجاوز مصادرة حقّه في التعبير طوال ثلاثين عاماً إلى احتكار حقّه في التفكير. مع ذلك، نتفهّم رفضهم المكابر للمبادرة الرباعية، فهي إذ تحفر كوّةَ الأمل لإطفاء الحرب، إنما تفتح نافذةَ تجريدهم من السلطة، أو ربّما دفعهم خارج مسرح عملياتها، ولو مؤقّتاً. لكن فرعنتهم في احتكار السلطة، وحقّ التفكير، يجعلانهم لا يكتفون بإبداء الرأي فقط، بل تأكيد وصايتهم على الشعب، ففرضوا الحرب باسمه، ويصرّون على التوغّل فيها بالإنابة عنه، ويفترضون له مطاردة شبح النصر. هم غير آبهين مع ذلك كلّه بمعاناة الشعب، وهدر قدراته وشبابه وفرصه الحياتية. لا يهم ولو طال زمن الهدر عشر سنوات كما يتباهى بعضهم بنصرٍ مُتوهَّم. الحسم ليس للبندقية وحدها، فماكينة الدمار الإسرائيلية المتوحّشة تعمل طوال أكثر من سنة في شعب أعزل من دون بلوغ انتصار حاسم.

الحركة الإسلامية لم تُفِق من غيبوبة الاستبداد والغطرسة بعد هذا الخراب كله على صعيد الوطن، والضحايا وسط الشعب، إذ لا تزال تتحدّث بلسان حال الوصاية على الشعب وتجسيد إرادته الحقيقية، وحماية الدين وسيادة الشعب واستقلال الوطن (!). هذه مرافعةٌ تدين الحركة الإسلامية حدّ التجريم بالخيانة الوطنية، فهي فرّطت في حماية البلد حتى سقط في الانقسام، ويشارف حالياً على التجزئة. عجزت عن بسط هيبة الدولة وقوة القانون، حتى قُضمتْ أجزاء من الوطن وصار القانون لعبةً في أيدي مجموعة غير كرام بررة. كما أُضعفت إرادة الشعب، حتى أمست الدولة عرضةً لإملاءات نفوذ الآخرين. ذلّت المواطن إلى حد ممارسته التسوّل. أفسدت الدين حتى أغرقته في الفساد والدجل. على من يرفع شعار الكرامة استعادة صمته المخزي حينما كان أوباش مسلّحون يسلخون بالسياط ظهور شيوخٍ مسالمين، ويهينون شبّاناً مناهضين بحلق رؤوسهم كما تُجزّ فِراء الخراف.

طرفا الحرب مثلُ الشعب قاطبةً، يحتاجان إلى طوق نجاة بغية الإفلات من الغرق

كأنما نداء التفاوض بغية إنهاء هذه الحرب الكارثية رجسٌ من عمل الشيطان، يُرجم من يرفعه بالخيانة والإلحاد. أو كأنما هو بدعةُ ضلالٍ مستحدثةٌ، بينما يحدّثنا التاريخ بكل اللغات أن معارك الحروب تنتهي دوماً في قاعات المحادثات. إنهم يكفرون بالتفاوض، لأنهم يدركون أنه يقرّب نهايتهم سلماً. هم يحاججون في كفرهم بالمبادرة من منطلق رفض مساواة الجيش وقوات الدعم السريع. تلك مساواة منطقها أنهما طرفا الحرب، فالجيش يخوض حرباً ضدّ مقاتلي “الجنجويد”. جنرالات الجيش الأربعة، القابضون على كل السلطة (السيادية، التنفيذية، التشريعية، العدلية، العسكرية، الأمنية، المالية)، أعلم من غيرهم بسيرة “الدعم السريع”، من الولادة مروراً بالتربية والتسمين حتى شبّت عن الطوق. عبثاً يتوهّمون انتصاراً قريباً، بينما يحاججون باستمرار تدفّق المرتزقة والعتاد العسكري من الخارج.

الحركة الإسلامية غيرُ مهيأة لاستيعاب عذابات الشعب، ولا المتغيّرات على مستوى السياسة الدولية أو فهم التقاطعات على صعيد المنطقة. أيُّ نظرة نافذة ولو قليلاً ستتوقّف عند محاولات قيادات كسرَ المألوف المتوارث عقوداً، والخروج من تحت أنقاض الاستبداد وأطلال الأيديولوجيا. كما تشاهد عزائم شعوب تسعى إلى استنشاق نفحات الحرية والكرامة، وإعادة بناء جسور إلى مستقبل حافل بالتصالح الداخلي، والانسجام مع المحيط الخارجي. في ظلّ الخراب المعيش داخل الوطن، تُشكّلُ مبادرةُ المجموعة الرباعية فرصةً حقيقيةً يتحتّم استثمارها للنهوض من تحت الرماد. الضلع الآخر من الفشل يتجسّد في هشاشة القوى المدنية وتشقّقها البالغِ حدَّ العجز تجاه اكساب المبادرة الخارجية نواةً وطنيةً صلبةً عبر حراك جماهيري ضاغط على حَمَلة السلاح، من أجل تسليمهم بالتفاوض وسيلةً حاسمةً لإنهاء الحرب. هذه المبادرة لا تميل إلى جهة طرف على حساب الآخر، بل تتحدّث عن مغادرتهما معاً أروقة صناعة القرار. ذلك ليس خيار الحركة الإسلامية.

من يرفض استثمار الفرصة عليه طرح بديل سلمي مُقْنع

ليس المطلوب قبول المبادرة كيفما جاءت، بل قبول نقل المعارك من المدن والمعسكرات إلى قاعات التفاوض. المبادرة ليست شروط إملاء، كما أن أطرافها ليسوا وسطاء. هي مقترح ينبغي استثمار زخمها الخارجي لإلقاء البنادق وفتح قنوات الحوار. ترحيب “الدعم السريع” بها لا يعني التسليم بالهزيمة، بل ربّما يعكس تفوّقَ عقلية المليشيا السياسية (ياللأسف) على دماغ الدولة. وصم أحد أطراف المبادرة بمساندة “الجنجويد” لا يبرّر منطقياً رفض جهود الأطراف الثلاثة، هذا وضع يتيح فرصة إحداث تحوّل في المواقف، فمن المتداول لدى مبتدئي إدارة السياسات أنه لا توجد صداقات دائمة في العلاقات الدولية أو عداوات دائمة، بل هناك دوماً مصالح دائمة. التدخّل الخارجي وباء عالميٌّ تشكو من أعراضه الدول كلّها، بما في ذلك أميركا. كما لا تُستثنى منه عاصمة في الوطن العربي منذ حرب السويس (1956)، ولا تبرأ منه عاصمة أفريقية. العصابة القابضة على جميع مؤسّسات الدولة أكثر من فرّط في سيادة الدولة وبسط هيبتها والحفاظ على حدودها وكرامتها، بل ساومت على تراب الوطن مقابل بقائها.

المبادرة فرصة لبناء اصطفاف وطني جماعي ضدّ الخراب، ومن أجل السلام والخير والجمال والعدالة، من يرفض استثمار الفرصة عليه طرح بديل سلمي مُقْنع.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى